جريمة لتفجير الحوار والوطن

TT

كما يحق لراصد السياسة السير بـ«نظرية المؤامرة» أو رفضها، له أن يتقبل وجود عنصر المصادفة أو يستبعده كلياً. ولكن من واقع التجربة يمكن القول إن نسبة «المصادفات» في مجريات الأزمة المتطاولة في لبنان أقل بكثير منه في العراق، مثلاً.

وإذا كان قد حصل خلل كبير في الحسابات إبان الإعداد لغزو العراق، بسبب التضليل المتعمد لفريق مَصلَحيّ ناشط ضمن مطابخ السياسة الأميركية.. ولاؤه الأصلي ليس للولايات المتحدة ومصالحها الوطنية، فإن ما يحدث في لبنان أمر مختلف تماماً.

هنا المعطيات مختلفة، والأهداف مختلفة، والتكتيك مختلف، والوعود والعهود والآمال المعلنة والمضمرة مختلفة. وبالتالي، فجريمة اغتيال الشهيد صالح العريضي، عضو المكتب السياسي في الحزب الديمقراطي اللبناني، بالأمس مع بدء العد التنازلي لانعقاد «طاولة الحوار الوطني» المنشود.. حتماً لا تندرج في خانة «المصادفات».

إنها رسالة سياسية فائقة الخبث بجانب بشاعتها كجريمة قتل اعتاد اللبنانيون مثيلاتها خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وبخاصة، أن المخطِّطين والمنفِّذين يعرفون جيداً ماهيّة الجبل، وخطورة العبث بواقعه وتوازناته السياسية والأمنية والديموغرافية الدقيقة. ويعرفون أيضاً رمزيته ومركزيته بالنسبة للثقافة السياسية اللبنانية و«الهوية اللبنانية».

وبعيداً جداً عن منحى الكيانية الضيقة المتنكرة للهوية العربية الجامعة، يجب القول إن أول مشروع له طابع «لبناني» جسّده الأمير فخر الدين الثاني المعني (1572 - 1635)، الذي كانت حدود «دولته» أكبر بكثير من حدود لبنان الحالي، بل لقد امتدت تلك «الدولة» لتشمل أجزاء من سورية وفلسطين المعاصرتين.

ثم بعد إنشاء «متصرفية جبل لبنان» (1861 – 1918) تجدّد هذا الوضع مع إنشاء ولاية بيروت العثمانية (1888 – 1918) التي كانت تشمل أجزاء لا بأس بها من المناطق الساحلية السورية (لواء اللاذقية) والفلسطينية (لواء عكا ولواء نابلس)، وقد وُجدت ولاية بيروت العثمانية جنباً إلى جنب مع ولاية دمشق ـ أو ولاية سورية ـ التي ضمت الداخل السوري.

القصد من هذا الكلام، أن تبنّي هوية سياسية تؤمن بمشروع «دولة مؤسسات» في لبنان سيد مستقل لا يتعارض مطلقاً مع الهوية العربية، بل يرفدها ويعززها ويعطيها صدقية غير موجودة، للأسف، في خطاب مفتعل ومنافق يدّعي العروبة ويزايد فيها على الآخرين، بينما يزرع الألغام في درب أي تقارب داخلي أو قومي.

أكثر من هذا، فإن قيام «دولة المؤسسات» في لبنان يشكل ضمانة، ليس فقط للبنانيين في وجه انقساماتهم العشائرية والدينية والمذهبية، بل أيضاً لجيرانهم مِمّن يتوهمون أن محاربة سموم هذه الانقسامات تأتي عن طريق التمويه والتجهيل والقمع وكم الأفواه.

إن اغتيال صالح العريضي، من دون استبعاد أي جهة، وبالأخص إسرائيل ومَن يخدم مصالح إسرائيل، يهدف إلى نسف مشروع «الدولة» المنشودة من «قلبها» التاريخي و«عقدة تواصلها» و«علة وجودها».

فإذا استرجعنا الماضي نتذكر أن في الجبل العواصم التاريخية الخمس للبنان، وهي: بعقلين عاصمة المعنيين الأولى، ودير القمر عاصمة فخر الدين المعني، وبيت الدين عاصمة الشهابيين، والمختارة عاصمة الجنبلاطيين، وبعبدا عاصمة المتصرفية.

وفي الجبل تعايشت الطوائف اللبنانية الأساسية ـ قبل 1920 ـ من دون استثناء.

وفي الجبل انطلق التفاعل والتحالف.. ومنه اشتعل فتيل التناحر والاحتراب.. قبل تحقيق التوافق والتصالح في أغسطس (آب) 2001.

وفي الجبل ولدت «العصبية» القيسية ـ اليمنية.. وتطوّرت إلى «الغرضية» الجنبلاطية ـ اليزبكية ثم إلى «الحزبية» الدستورية – الكتلوية.. وصولاً إلى «الميليشياوية» من كل الأصناف والألوان.

بالمختصر المفيد، الجبل هو القلب الذي لا غنى عنه لكل أجزاء الوطن، فإذا أصابه عطب انتهى الوطن حلماً وواقعاً.

أما عن الحاضر والمستقبل، فإن مخططي الجريمة ومنفذيها وقّتوها عمداً قبل أيام معدودات من التئام «طاولة الحوار» التي دعا إليها الرئيس ميشال سليمان بهدف البحث في موضوع أساسي محوري واحد، بعد «أحداث 7 مايو (أيار)» الماضي وتداعياتها، هو «سلاح المقاومة والسياسة الدفاعية للبنان».

والمفهوم أن «أحداث مايو» تركت انعكاسات خطيرة أدركت مختلف الجهات المحلية والعربية، وحتى الدولية، ضرورة لجمها قبل أن تتفاقم. فكان «اتفاق الدوحة» وانتخاب رئيس الجمهورية والتفاهم على عقد الحوار الوطني لبحث القضايا الخلافية العالقة.

غير أن لبنان دخل في ما بعد سباقاً جديداً بين الفتنة والسلم الأهلي مع اندلاع سلسلة الاشتباكات المتنقلة في طرابلس وعكار في الشمال، وبعض المحاور الساخنة في منطقة البقاع، واستمرار الخطاب التصعيدي المتشنج أمام خلفية المحاولات الاختراقية والالتفافية السياسية تحت ذريعة التوافق المذهبي. وكان رد الفعل الأولي في الجبل هو مضاعفة العمل على منع تمدّد الفتنة إليه مهما كلّف الأمر. ومن هذه الزاوية، بالذات، يمكن تفسير العنصر الفتنوي الخطير في اغتيال صالح العريضي.

كيف يكون الردّ على الفتنة؟

أولاً وقبل أي شيء آخر، بالمصارحة والمكاشفة.

المصارحة والمكاشفة حول قضايا أساسية مثل: هل هناك حاجة لوجود دولة.. أم أن البلد كله مشروع مقاومة ومشروع ثورة؟ وهل تكفي «التعهدات» الخارجية التي أثبتت الأيام «زئبقيتها» ـ كي لا نقول نفاقها ـ للدفاع عن لبنان في وجه خصومه.. أم لا؟ وهل ثمة قواسم مشتركة بين اللبنانيين كافية لطمأنتهم إلى قدرتهم على التعايش الحقيقي.. أم أنهم سيظلّون ينتهزون فرص تبدّل الظروف الدولية لتحقيق الغلبة على شركائهم في الوطن؟

ثم على اللبنانيين إزاء ما قد يكون ـ لا قدّر الله ـ آخر فرصة أمامهم لإنقاذ أنفسهم ووطنهم، ان يفهموا المعنى الحقيقي لمقولة الـ«لا غالب ولا مغلوب». ففي لبنان مثل شعبي يقول «أنت بخير طالما كان جارك بخير». والمغزى أنه يستحيل بناء وطن في ظل المخاوف والمطامع المتبادلة. وما لم يشعر اللبناني لأي فئة انتمى بالطمأنينة إلى أمنه ورزقه وقناعاته الثقافية وحرية ممارساته الدينية والسياسية فلن يتحقق السلم الأهلي، بل سيبقى لبنان .. يتيما على مائدة اللئام.