«والفن مين يعرفه» غير أهل الـ ...؟!

TT

الحبر الذي أُهرق أكثر سيولة من المال الذي أُنفق. ليس عندي ما أزيد عما كتب وكشف في قضية سوزان تميم، إنما كصحافي يرصد سير الحياة الاجتماعية والسياسية، لا أستطيع أن أتجاهل ظاهرة العلاقة الحميمة التي باتت تجمع بين أهل «البزنس» بزنس الفن، وبزنس المال والسياسة.

منذ البداية، أقول إن القضية تشكل تحديا للقضاء العربي. القضاء المصري مطالب بأن يثبت أنه سلطة ثالثة حقيقية في الدولة العربية المعاصرة، سلطة مستقلة عن تدخل السلطة التنفيذية.

تركُ القضية للقضاء قرار سياسي اتخذ على أعلى المستويات. وهو قرار حكيم يشرِّف نظام حسني مبارك. لو لم تكن الأدلة كافية لما أقدم النظام على التخلي عن أحد رجاله من أصحاب المال والنفوذ. ولعل ترك الحرية للقضاء كان العبرة التي استخلصت من «تبرئة» رجل الأعمال محمود إسماعيل مالك العبّارة التي أخذت معها إلى قاع البحر ألف حاج مصري.

للطرافة، أذكر أني كنت من ضحايا عبارة إسماعيل. فقد كنت وقتها أكتب مقالا أسبوعيا في «أخبار اليوم» كبرى صحف مصر الأسبوعية بدعوة من رئيس تحريرها الجديد الزميل ممتاز القط، بناء على تزكية من كبار المسؤولين السياسيين والإعلاميين. لا أدري ماذا قال لهم الزميل العزيز عندما توقفت عن الكتابة بعد شهور، لم أقبض فيها مرتبي الرمزي الذي اتفقت معه عليه. أرسلت إليه مداعبا بأن الشيك الموعود به غرق مع عبارة مولانا إسماعيل. يبدو أن الزميل غضب غضبة ممتازة زعلا على صديقه رجل الأعمال البحري، كغضبته الدفاعية عن صديقه رجل الأعمال البرِّي هشام طلعة مصطفى (أكتبها بتاء مربوطة الأصح لغويا).

غير أن الثناء يجب أن يتوجه إلى المسؤولين في إمارة دبي. الأمن في هذه الواحة المزدهرة هو أساس مصداقيتها لدى عشرات ألوف المقيمين الدائمين واليوميين العابرين. انه الأمن الإلكتروني الذي كشف هوية القاتل المحترف. اننا نفقد جانبا من خصوصيتنا في هذه الرقابة الصارمة. لكن لا بد من التضحية بشيء من حريتنا الاجتماعية، من أجل تأمين حياتنا ضد قوى الشر ومافيات الجريمة.

القضية مثيرة تتوفر لها كل حبكة الرواية الهوليودية، ولا تنتظر سوى عودة المخرج الراحل هتشكوك ليضع لها نهاية تريح أعصاب المشاهد. القضية تختصر العلاقة الأبدية بين الرجل والمرأة، بين سلطة المال وسلطة الجمال، بين سلطة السياسة وسلطة الجنس.

سوزان امتلكت قدرا كبيرا من الجمال المدعوم بالأناقة اللبنانية أكبر مما تملك من موهبة الفن. أغلب ظني أنها ليست لبنانية، إنما هي غالبا عراقية نزحت مع أسرتها إلى لبنان قبل أكثر من عشر سنوات. وحصلت على الجنسية بزواج مشروع من رجل أعمال لبناني.

الله، جلّت حِكمته، لا يضرب الرجال بعصوين: إما أن تكون المرأة جميلة وإما أن تكون ذكية. المرأة العراقية جميلة جدا أو عادية جدا. سوزان هي من الفصيلة الأنثوية العراقية النادرة التي أكسبت شمس الرافدين جمالها لونا خمريا يُسكر مَن هو قادر على الدفع. لعل تساهل الأسرة مع ابنتها لظروف النزوح هو الذي أطلق العنان لسوزان (أعتقد أن الاسم فني وليس الحقيقي) للهو بالنخبة من رجال المال والنفوذ والسلطة.

غريزة الفراشة الفنية هي التي تدفعها إلى التلذذ بوهج السلطة إلى درجة الاحتراق به، أي من دون تقدير لقوة النار في قلوب نخبة أسكرتها خمرية الجمال، وقادرة على الانتقام إذا غدر الجمال بالغرام.

لست مهتما بتبرئة أو إدانة هشام ورجل أمنه محسن السكري، إنما غرضي القول إن هشام يمثل صعود النفوذ المالي والسياسي لفئة الـ«نوفوريش» في عصر الليبرالية الاقتصادية العشوائية المغطاة أمنيا بزواج «بزنس» الاقتصاد ببزنس السياسة، بحيث بات رئيس كبشار الأسد يدافع علنا وبحرارة عن «حق» ابن خاله في احتكار قطاع تجاري وتكوين ثروة طائلة من المال السهل.

أملك من جرأة الأمانة الصحافية ما يكفي للدفاع عن الليبرالية الاقتصادية. لست ضد رجال البزنس. أعرف عشرات من رجال المال يقدمون مساعدات سخية دائمة لأسر محتاجة. يفعلون ذلك سرا تجنبا للتباهي الفارغ، وحفاظا على كبرياء المعوزين.

وأملك من الجرأة أيضا للمطالبة بليبرالية سياسية، تضمن لحزب اشتراكي حقيقي مراقبة الليبرالية الاقتصادية، والكفاح من أجل حفظ حقوق العاملين، ليس من رجال المال والأعمال وشركات التشغيل، إنما أيضا من الاتحادات النقابية التي فقدت عذرية مهمتها بمصاهرتها للسلطة التي أممتها منذ العصر الناصري.

الحزب الاشتراكي مطلوب في حياتنا السياسية للتخفيف من حدة اللامساواة في الدخل التي تحدثها عادة الليبرالية الاقتصادية، وتهرب القطاع الخاص من أداء الضريبة، واحترام قوانين العمل، وحقوق العاملين الوطنيين والمهاجرين المقيمين. المشكلة أن الحزب الاشتراكي غير موجود لفقدان الليبراليين السياسيين، ولعجز الحزب السياسي الديني عن حماية القيم الاجتماعية الفاضلة، وفرضها على رجال البزنس، بعدما التحق مثلا رجال الحزب الديني (الاخواني مثلا) في مصر والجزائر والأردن وغزة بعشوائية الليبرالية الاقتصادية، وأصبحوا من كبار الرأسماليين.

سوزان تميم هي ضحية هذه الليبرالية الفالتة، بقدر ما هي مستغلة لها. مارست سوزان لعبة الغواية لرجل أعمال يملك ضعف الرجل الشرقي أمام الأنثى، ربما أي أنثى، ويملك سلطة المال الكافي لاستئجار مَن يطاردها ويهددها، بعدما أتخمت بالمال السياسي الذي يملكه من دون أن يملك ثقافة، ولا يعرف حدودا لمسؤوليته الاجتماعية والسياسية والعائلية.

في الزواج الحميم بين «بزنس» السلطة والمال والفن. هناك مآسٍ زوجية سابقة، بقدر ما هناك من سعادة في حياة هانئة. لم يعرف الفن صوتا بكبرياء الحزن ذي رنين حبات الكريستال المتكسر المنهمر على سطح الرخام (التعبير لمحمد عبد الوهاب) كصوت أسمهان. ما زال موتها لغزا سياسيا. هي أيضا عاشت في وهج النار بين عوالم الفن والسياسة والجاسوسية، بكل ما تملك من حلاوة الصوت والجمال والأناقة والإغراء.

عندما لحن العبقري فيلمون وهبة أغنية «حَوِّلْ يا غنّام» لنجاح سلام فتنت العالم العربي ببراءة صوت مراهقة صغيرة (1947)، فخطفها عندما زارت دمشق شاب سوري من أسرة الدالاتي التي يصاهرها الرئيس شكري القوتلي. حكمة الرئيس الفاضل فرضت الإفراج عن المطربة، من دون إحالة الشاب إلى القضاء.

لو سمح زميلي وصديقي مشاري الذايدي الذي يحتل قلمه السيال المساحة الأكبر من هذه الصفحة، لأوردت قصص عشرات من فراشات الفن اللواتي اجتذبهن وهج السياسة والمال، وإلا ماذا وجدت برلنتي عبد الحميد في المشير عامر، وماذا تجد ليلى علوي ويسرى وحنان ترك وفيفي عبده في رجال «بوسامة» هشام طلعة مصطفى، سوى جاذبية المال. ربما هن اللاتي خصهن خبث ذكاء عبد الوهاب الوفدي الذي غنى مضطرا: «والفن مين يعرفه غير الفاروق ورعاه؟»... وأضيف من عندي «وأهل بزنس المال والسياسة».