مقال رقم 7

TT

لماذا أصبح حدث 11 سبتمبر مهماً لهذه الدرجة التي يرى فيها كثيرون، من عشاق نظرية المؤامرة، أو أعداء أمريكا المزمنين، أنها صناعة أمريكية مقصودة لتحصيل مكاسب سياسية واستراتيجية معينة، ودليلهم على هذا أنه لولا الحملة على الإرهاب التي أشغلت أمريكا العالم بها عقب هجمات 11 سبتمبر، لما استطاع العم سام أن يدخل العراق او يسقط طالبان او يرعب دولا أخرى «مارقة» في محور الشر الثلاثي الشهير، رغم محاولات بشار الأسد الإفلات من أضلاع المثلث الشرير.

غير ان هذا الفهم المؤامراتي المحض لا يبدو كافياً لفهم حقيقة ما جرى نهار 11 سبتمبر2001، وما تم بعد ذلك وما مهد لهذا الجنون الكبير، قبل ذلك.

الهجمات السبتمبرية ليست حدثا امنيا او إرهابيا محضا، ولا حتى انتقاما سياسيا خالصا، إنها حدث «حضاري» بالمعنى الذي يشير الى تفجر حضارة في وجه أخرى، وتوتر حضارة بشكل حانق تجاه حضارة اخرى. وحتى لا تنزلق الافهام الى مجرى آخر فيما يخص كلمة «الحضارة»، فإن المقصود هنا الجانب المتأزم من كل حضارة، فالجانب المتأزم منا هو الذي أرعب وأرهب وفجر وقتل في نيويورك ولندن ومدريد واستانبول وبالي والكويت والرياض وجدة والدمام وشرم الشيخ والقاهرة وجربة والجزائر والدار البيضاء، باختصار «الإرهاب الإسلامي» هو الجرح النازف من إسلامنا والأكثر تعبيراً عن الجوانب المتوترة والمتأزمة منا. وفي المقابل، فإن فيلم «فتنة» الهولندي ورسوم الكارتون الدنماركية وكتابات المتطرفين، وتعذيب سجن ابوغريب، وغير ذلك، هي الجانب المتوتر تجاهنا من قبل الحضارة الغربية.

منذ «غزوة مانهاتن»، ونحن في حالة تناطح إعلامي وسياسي وعسكري مع الغرب، مطارات أمريكا لم تعد ترحب بنا كثيرا، والأضواء الاعلامية صارت مسلطة علينا بكامل طاقتها، ولم يعد بمقدور فتوى متطرفة شاردة من هنا او هناك أن تظل حبيسة الوريقات التي كتبت عليها او محشورة في جنبات المجالس والصالونات، بل صارت الأذن العالمية مرهفة جدا لالتقاط كل شيء يصدر منا، فتطير الفتوى او التصريح المتعصب بعد لحظات من صدورها أو صدوره، الى مسامع العالم وكل وكالات الأنباء والقنوات الفضائية والصحف، من سنغافورة الى كاليفورنيا. متى ينتهي هذا التوتر العالمي؟ وهل سيأتي يوم يصبح فيه الحديث عن الارهاب و أزمة الفكر المتعصب وفقدان الثقة بيننا وبينهم، شيئا من الماضي؟

الحق أن هذا سؤال سابق لأوانه، لأنه من المحال أن ينتهي الجواب بسرعة على سؤال من هذا النوع، وهو سؤال يتصل بالتاريخ الطويل، والحروب الطويلة بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي او الشمال الغني والجنوب الفقير، انه سؤال فوق ان يجيب عنه سياسي يسلط نظره على حل العابر من المشكلات وتحقيق السريع من المنجزات والمكاسب، وبالتأكيد هو فوق قدرة موظف علاقات عامة همه ان يقدم بعض البروباغندا او الكلمات الحلوة عن جمال مجتمعه وطيبته، وأواصر المودة الرابطة بيننا، فكل هذه الأفعال ليست إلا حبوب بنادول من النوع الرديء ايضا، لا تقدم ولا تؤخر، المشكلة حقيقة تتعلق بسؤال الذات للذات، وسنظل ندور في فضاء هذا السؤال حتى تتراكم سحب الجواب المثقلة بماء الحقيقة لتمطر راحة وطمأنينة على نفوسنا، ان العالم لن يرتاح حتى نرتاح نحن مع أنفسنا، لذلك فما أشار اليه المستشرق الفرنسي المعاصر جيل كيبيل من ان الارهاب الاسلامي العالم ليس الا نتاج أزمة داخلية، وانه موجه للداخل الإسلامي حتى وإن ضربت الهجمات اهدافا خارجية، ان هذه المقاربة تبدو صحيحة في بعض الحالات، رغم التحفظ على طروحات كيبيل الاخرى. نحن نرهب العالم لأننا لم نحسم بعد سؤال الهوية لدينا، وأي مستقبل نريد؟ وكيف نعرف الشرعية الدستورية لدينا؟ وأي عقد سياسي اجتماعي نريد؟ وكون أننا عشنا فترة او فترات معينة في حالة استقرار امنى وسياسي في بعض الدول والمجتمعات العربية، فان هذا لا يعني أن هذه الاشواق الدامية زالت من دواخل كثير منا، والدليل على ذلك هو نمط الاستجابة السريعة لكل دعوة متطرفة او فتوى دامية تصدر من هنا او هناك، استجابة وترحيب من قبل أفراد في المجتمع ليسوا من الإرهابيين او الاصوليين بالمعنى التقليدي، بل انك تجد اشخاصاً تلقوا تعليمهم الطويل في جامعات امريكا وبريطانيا وفرنسا، وتلقوا تدريبا راقيا، ولكنهم اول من يبادر الى الاصطفاف خلف أي موقف او تصريح يشتم منه رائحة اعادة الشرعية الدينية المفقودة، بزعمهم، أي ان هناك «ضعف مناعة مكتسبا» تجاه الطرح الاصولي المتطرف، الأمر يحتاج فقط الى من يرفع راية التعصب ليجد الكثيرـ من شتى المنابت والالوان ـ يصفق، او بالأصح ، يهلل ويكبر له.

هنا الأزمة الحقيقية العميقة، الأزمة الحضارية والنفسية الشاملة، أزمة الذات الجماعية والهوية، وهي أزمة لدنيا أكثر مما هي أزمة لدى الغرب. أعني أزمة الهوية وتحديد الرؤية للحاضر والمستقبل والتشافي من المرض بالماضي، فلا هم أسرى له، ولا هم مستنكفون منه. نعم لدى الغرب متطرفون ومتعصبون على طول التاريخ في الماضي، وهذا شيء واضح، وفي الحاضر، وسيوجد في المستقبل، ولكنهم الأقل تأثيرا في السياسات الأساسية، يقوى شأنهم او يضعف حسب الظروف، لذلك رأيناهم بعيد هجمات 11 سبتمبر يكتبون ويصدرون الافلام والمواقف، لكنهم «أسرع الناس إفاقة بعد غفوة» كما قال الصحابي عمرو بن العاص عن البيزنطيين الأوائل.

من أجل ذلك، كان السؤال كسؤال شيخ المستشرقين برنارد لويس: «أين الخطأ» والذي اشتمل عليه كتابه المعنون به عقب 11 سبتمبر، سؤالا مركزيا، هل لدينا خطأ ما أدى إلى ولادة «القاعدة» وأخواتها؟ وهل لدينا خطأ ما أدى إلى وجود قابيلة عالية لتفريخ الإرهابيين والمتعصبين على الدوام، وها هي بيانات الداخلية السعودية تترى علينا كل وقت تخبرنا عن خلية انترنتية او تمويلية او تنسيقية، لـ«القاعدة»، وها هو المغرب لا ينتهي من خلية «بولعيرج» حتى يبدأ بخلية الأندلس، فهل نحن ضعفاء أمام غواية التعصب الديني المسيس؟ أين الخطأ؟ لماذا يكرهوننا؟ على أي أساس نتعايش؟.. كلها اسئلة سبتمبرية ما زالت معلقة على أهداب الانتظار بعد مرور سبع سنوات على «آرمجدون» الصغرى التي دارت رحاها بعد غزوة «القاعدة» الهائلة في نيويورك وواشنطن.

وهذا هو السؤال السابع الباقي بلا جواب حتى لحظة كتابته..

[email protected]