عبد الوهاب المؤدب والتنوير

TT

عبد الوهاب المؤدب لمن لا يعرفه هو الشاعر والمفكر التونسي المقيم في فرنسا، والذي يكتب بالفرنسية كالطاهر بن جلون أو فتحي بن سلامة أو مالك شبل أو العديد من المثقفين والباحثين المغاربة بالمعنى الواسع للكلمة. وهو أستاذ الأدب المقارن في جامعة باريس العاشرة والمشرف على برنامج ثقافات الاسلام في اذاعة فرنسا الثقافية. كما انه من كبار المعجبين بالتراث الصوفي الاسلامي وبخاصة ابن عربي. ولكنه مطلع ايضا على التيارات الأخرى من فلسفية ومعتزلية وعقلانية عموما. وكثيرا ما يستخدمها لمحاربة التيار الأصولي السائد حاليا. وفي كتابه الأخير يرى هذا الباحث ان على المثقفين العرب أن يأخذوا فلسفة التنوير الأوروبية على محمل الجد.

لماذا؟ لأن كل أفكار الحداثة من حرية ومساواة وإخاء بين البشر متولدة عنها. صحيح ان الغرب لا يطبقها تماما أو دائما كما ينبغي، لكنها موجودة على الأقل ولا أحد يعترض عليها. لقد اصبحت من المسلمات أو البدهيات التي تميل الى تعميم نفسها عالميا، خصوصا إذا ما اضفنا اليها فكرة العلمانية والحرية الدينية والتسامح وبقية الحقوق الانسانية. ففي دول الغرب المتقدمة مثلا يوجد قانون يعاقب على العنصرية أو الطائفية، كل من تسول له نفسه ان يهاجم شخصا آخر مستخدما محاجات عنصرية أو طائفية ضده يقع تحت حكم القانون. ممنوع أن تعيّر الأسود بلون وجهه أو أن تحقّر العربي بأصله أو اليهودي الخ.. وذلك لأن هذا سيشكل انتهاكا لحقوق الانسان ولكل القيم التي رسختها الحداثة الفكرية والسياسية على أثر فلسفة التنوير. يمكنك ان تنتقد المواقف السياسية لأي شخص بمن فيهم رئيس الجمهورية، ولكنه ممنوع منعا باتا ان تنتقده على أصله وفصله، أي على شيء لا حيلة له به، لأنه لم يختر مكان ولادته ولا بيئته ولا لون وجهه أو شعره او دينه او طائفته.. وأكبر مثال على استنارة الغرب هو ان باراك حسين اوباما الاسود اللون اصبح على أبواب البيت الابيض تقريبا. وحتى لو لم ينجح فانه حقق منذ الآن اختراقا غير مسبوق. وهذا دليل على عظمة الشعب الاميركي وتسامحه.. قد تبدو هذه الاشياء بدهية او تحصيل حاصل ولكن كم هو عدد المجتمعات البشرية التي تتقيد بها وتحترمها؟

عبد الوهاب المؤدب يلاحظ ان تفضيل المسلم على غير المسلم في كافة المجتمعات العربية امر وارد جدا بل ويعتبر بدهية لا تناقش. وهذا شيء يناقض الحداثة الفلسفية التنويرية التي تقول بان جميع البشر سواسية بغض النظر عن اديانهم واعراقهم وانهم متساوون في الحقوق والواجبات. بل وحتى امام الله فهم متساوون ولا تفرق بينهم الا اعمالهم. فمن كانت اعماله صالحة فيها الخير لنفسه وللآخرين كان هو الافضل بغض النظر عن دينه او عقيدته.

فاذا كان المسيحي مثلا خيرا فاضلا فان مكانته عند الله اعلى من مكانة المسلم الشرير والعكس صحيح ايضا.

انني اعرف ان هذا المبدأ يصعق الاصوليين عندنا لانهم يقسمون الناس على اساس طائفي بل وحتى مذهبي بشكل مسبق ولا مرجوع عنه وذلك طبقا لحديث الفرقة الناجية الشهير. ولكننا نقول لهم بان الفرقة الناجية بالمعنى الحديث للكلمة هي الفرقة الحضارية ذات النزعة الانسانية التي تشكل نظاما ديمقراطيا، متسامحا، يؤمن الحريات الاساسية لجميع المواطنين ويؤمن لقمة الخبز والكرامة الانسانية ايضا.

هذه هي الفرقة الناجية ولا شيء غيرها. ولهذا السبب فان عبد الوهاب المؤدب يدعونا الى عدم التمييز بين الناس بعد الآن على اساس الاعتقاد الديني او الطائفي. فلا امتياز للمسلم على سواه الا اذا كان شخصا طيبا، مخلصا، مساهما في تقدم البشرية عن طريق الاكتشافات والاختراعات او محاربة الأمية والجهل والفقر، او أي شيء آخر مفيد للجنس البشري قريبه والبعيد. لقد آن الاوان لكي نحدث القطيعة الابستمولوجية، أي المعرفية العميقة، مع مقولات القرون الوسطى والتصنيفات الفقهية القديمة التي عفا عليها الزمن والتي اصبحت مدانة من قبل الحداثة الكونية. العالم كله يراقبنا الآن نحن المسلمين والعرب ويطالبنا ببذل جهود مضاعفة لتنقية كتبنا المدرسية وفضائياتنا التلفزيونية وجرائدنا ومجلاتنا من كل هذه الاحكام الطائفية والعنصرية التي نطلقها جزافا بل وحتى دون ان نشعر احيانا، لذلك فان عبد الوهاب المؤدب قال للمثقفين المصريين الذين التقاهم في القاهرة اثناء زيارته لها والذين فاجأوه بهجوم شامل وكاسح على الغرب: أرجوكم لنكنس امام بيتنا قبل ان ننتقد الآخرين.