في انتظار واشنطن؟!

TT

عندما سأل الصحافي من محطة «سى.إن.إن» التلفزيونية الرئيس بشار الأسد عن التوقيت الذي عنده سوف ينقلب حال المفاوضات غير المباشرة الجارية الآن بين سوريا وإسرائيل عبر القناة التركية بالإضافة إلى قنوات أخرى، فإنه أجاب بأن ذلك سوف يكون ممكنا عندما يكون هناك وسيط «نزيه» مهم عامل بين الطرفين، ومن ثم فإن الأمر سوف ينتظر حتى انتهاء الانتخابات الأمريكية وتأتي إدارة جديدة تكون مهتمة بإنهاء الصراع العربي ـ الإسرائيلي. الإجابة هنا لا يوجد فيها فجاجة ـ أو صراحة ـ الرئيس السادات عندما قال في السابق إن 99 في المائة من أوراق اللعبة توجد في واشنطن، ولكنها تحمل نفس المعنى، فالرئيس السوري لم يقترح في وقت البزوغ الروسي الحالي بعد غزو جورجيا أن تقوم موسكو بالمهمة؛ ولا أن حالة الحميمية المفاجئة مع الرئيس ساركوزي أعطت باريس تفويضا بقيادة الوساطة، وعلى الأغلب فإن أنقرة تعرف دورها جيدا وقد قادته بنجاح وهو أنها بدأت بإزالة الثلوج في العلاقات السورية ـ الإسرائيلية وسمحت للطرفين السوري والإسرائيلي بفض الغبار عن الملفات والبحث عن توافق عما سوف يتم اعتماده منها أو يتم إعادته مرة أخرى إلى مائدة المفاوضات. وهي مهمة ليست قليلة لدولة يقودها حزب إسلامي المرجعية، وربما سوف يكتب لها في التاريخ يوما بعضا مما كتب للنرويج أثناء التحضير لاتفاقيات أوسلو.

الأمر إذن يقف كله في انتظار واشنطن، والمرجح أن واشنطن سوف تكون مستعدة للقيام بدور آخر؛ فقد انتهت الدورة التي قالت إن حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي مسألة ميئوس منها، وان العرب والإسرائيليين كتب عليهم الصراع الأبدي لأسباب لها علاقة بالتاريخ والدين والعقائد، وكلها أمور تخص الآلهة ولا تخص البشر. وبدأت دورة جديدة في واشنطن تقول هذه المرة ـ سواء في معسكر جون ماكين أو باراك أوباما ـ إن الحالة في الشرق الأوسط لن يكون لها استقرار ما لم يتم حل هذا الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي هو صراع مهم في حد ذاته، ولكنه أيضا من الصراعات التي تلقي بظلها الثقيل على صراعات الخليج والحرب ضد الإرهاب وخلافات الشيعة والسنة وصدام الراديكاليين والمعتدلين. وهي دورة على أية حال بدأت حتى قبل انتهاء إدارة جورج بوش عندما بدأ قبل نهاية العام الماضي ما عرف بعملية «أنابوليس» وهي عملية لا تزال مستمرة حتى وقت كتابة هذه السطور ولكن حشرجات موتها مسموعة، وهناك من يرى أنها ماتت موتا إكلينيكيا بالفعل وتنتظر لحظة إعلان الوفاة والدفن.

الرئيس بشار الأسد إذن محظوظ هذه المرة، لأن دورات الاهتمام والتراجع عنه تختلف في واشنطن من فترة إلى أخرى ومن رئيس إلى رئيس، وعادة فإن نجاحات الاهتمام هي التي تشجع على الاستمرار ولكن الإخفاقات كثيرا ما تثبط الهمم وتستدعى مع أول انتخابات الدورة الأخرى التي لا تتوقف إلا عندما يكون الثمن فادحا للمصالح الأمريكية. ولذلك فإن اهتمام الإدارة القادمة الناجم عن الإخفاق الأمريكي الشائع خلال الإدارة الذاهبة سوف يصبح التزاما استراتيجيا إذا ما بدا أن احتمالات النجاح ممكنة أو حتى متعادلة مع فرص الإخفاق لأن الرئيس الأمريكي كما هو معلوم لا يتحرك إلا وعينه على الانتخابات المقبلة! وهنا تحديدا فإن تصريح الرئيس الأسد لا ينبغي أن يتوقف على شكل الاهتمام الأمريكي القادم بل عليه أن يتجاوز ذلك إلى الاستعداد لتوفير أسباب النجاح التي لا نغالي إذا قلنا أن جزءا مهما منها يوجد في يد الرئيس السوري نفسه.

ولو كنت مكان الرئيس الأسد لقرأت ملف الصراع العربي ـ الإسرائيلي جيدا، وعدت مرة أخرى إلى تلك النقطة من عام 1977 التي افترق فيها الطريق المصري عن الطريق السوري وشكلت بعد ذلك فارقا في ما جرى في سيناء وما حدث في الجولان. آنذاك كانت حرب أكتوبر 1973 قد انتهت ومعها انتهت الجهود الدبلوماسية الأمريكية الخاصة باتفاقيات الفصل بين القوات. ومع انتقال الإدارة من نيكسون إلى فورد كانت الولايات المتحدة قد انتقلت من دورة اهتمام إلى دورة تجاهل حتى جاءت إدارة كارتر بدورة جديدة كان الصراع العربي ـ الإسرائيلي في مركزها. ساعتها كان على الرئيس السادات، ومعه الرئيس الأسد، أن يسألا نفسيهما أسئلة صعبة حول المرحلة الجديدة كان في أولها كم تساوي سيناء وكم تساوي الجولان بالنسبة للتكامل الإقليمي للدولة، وشرعية النظام فيها. وكان ثانيها هل يمكن للدولة (والنظام) أن تستمر وباحترام لذاتها إذا كانت أراضيها محتلة ولا تقاتل أو تفاوض من أحل استعادتها؟

هذه الأسئلة تبدو سهلة على سطحها ولكنها صعبة في جوهرها، بل انها هي أساس سياسات الأمم؛ وبالتأكيد كانت الإجابات المصرية والسورية مختلفة، وكانت النتائج أيضا مختلفة. وربما تعود السياسة السورية الآن، وبشكل أو آخر إلى نفس الأسئلة، وكانت أول الإجابات صحيحة أنه لا بد أن تأتي إدارة أمريكية أخرى لديها من الاهتمام الكافي ما يدفع المفاوضات إلى الأمام ويوصلها إلى النتيجة المطلوبة وهي تحرير الجولان. وهي نتيجة لا يمكن تحقيقها ما لم يكن هناك أيمان كامل بأن الجولان ليست مجرد قطعة من الأرض، وهذا مهم للغاية، ولكنها بالإضافة إلى ذلك جزء من استكمال وجود الدولة ذاتها بحيث لا تصح ولا تعيش إلا بها، وبالمقارنة بها فإن كل أمر آخر يكون ضئيلا وأقل شأنا. وخلال العقود الثلاثة الماضية ـ أو أكثر قليلا ـ فإن الإجابة السورية كانت سلبية حول الجولان، حيث غلبتها السياسة الأمريكية تجاه لبنان، وإرهاق السياسة الأمريكية والغربية في مناطق كثيرة في الشرق الأوسط، ونزع الشرعية عن اتفاقية السلام المصرية ـ الإسرائيلية حتى آخر القضايا التي اهتمت بها السياسة السورية حتى ولو كانت لها نتائج عكسية على استعادة المرتفعات السورية من براثن الاحتلال الإسرائيلي.

تصريح الرئيس الأسد يعيد الأمور إلى نصابها، وعندما وافق على إقامة علاقات دبلوماسية بين دمشق وبيروت كان يفتح صفحة جديدة في كتاب المشرق العربي حيث لبنان دولة وسوريا دولة أخرى. وبشكل من الأشكال أعطى الرئيس للبنان ما أعطاه الملك حسين للضفة الغربية عندما أعلن عن فصل الضفتين، بل انه في واقعه يحقق الفصل الصحي بين القضية الفلسطينية في جانب، والقضية والسورية في جانب آخر. وقد جرت العادة على اعتبار أن الربط بينهما يمثل عامل قوة لكليهما، ولكن التاريخ يشهد أن الربط كثيرا ما أضر بكليهما لأن الدولة المحتلة أقل قدرة على مساعدة الفلسطينيين من الدولة المحررة أراضيها، بل ذات الصلة المباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة.

كل ذلك يفتح «الطريق السوري» إلى المفاوضات المقبلة، فإذا كان دور الولايات المتحدة مهما، ولذلك كان الانتظار لها واجبا، فإن نتيجة العملية السياسية ناجمة في تفاصيلها على الجانبين السوري والإسرائيلي ومدى قدرة كل منهما على انتهاز اللحظة أو الفرصة. ومن الناحية الأخرى فقد تكون سوريا أفضل حظا هذه المرة، فهي لن تلقى المعارضة التي تعرضت لها مصر عندما بدأت مسيرتها، حيث لا توجد سوريا أخرى ولا عراق ولا حتى منظمة تحرير فلسطينية تعارضها وتطالبها باستمرار احتلال أراضيها انتظارا للحظة ذهبية يتم فيها التحرير لكل الأراضي العربية المحتلة من دون ثمن. ولدى سوريا، وإسرائيل أيضا، تراث طويل من المفاوضات اقترب من التوصل إلى اتفاق في أبريل عام 2000 ولم يكسره إلا بضع مئات من الأمتار على بحيرة طبرية لن يعدم خيال المفاوضين تجاوزها. كذلك فإنه لدى الطرفين مناخ إقليمي تغيرت فيه أمور كثيرة عما كان عليه الوضع خلال السبعينيات أو التسعينيات من القرن الماضي، وهذا المناخ يخلق أوراقا للتبادل والمقايضة والمنفعة المشتركة بحيث تربط مناخ المفاوضات بدلا من المساعدة على التهابها. وأخيرا فإن لدى الطرفين ذلك السؤال المر عما سوف يكون عليه الحال لو أن مثل هذه المفاوضات لم تحدث، ولم تنجح، حيث تجربة سنوات طويلة من الصراع سوف تجعل البديل الوحيد للمفاوضات حربا شاملة أخرى سوف يكون ثمنها فادحا أكثر من أي وقت مضى. إنها خيارات صعبة!