ماذا عن الشرق الأوسط الكبير؟

TT

تطوى في هذه الأيام صفحة من تاريخ البشرية فتحها «المحافظون الجدد» في الولايات المتحدة الأميركية، حين أعلنوا عزمهم على تغيير العالم. وفي لحظة إشراق من تلك التي تلمع فيها الأفكار المؤسسة للتحولات الحاسمة، ظهر لتلك الجماعة أن مصير العالم مرتبط بتطور الشرق الأوسط، وأضافوا نعتا لهذا المصطلح الجيوستراتيجي وهو لفظة «الكبير» قصد توسيع مجال الرؤية. وركزوا في الأذهان أن تصحيح الوضع في ذلك الفضاء الموبوء بأشد الأمراض فتكا، أمر مستعجل.

كانت الأفكار التي عبروا عنها في نطاق «مشروع القرن الأميركي الجديد» قد نضجت مكتملة المعالم، حينما أصبحت محاربة الإرهاب متصدرة جدول الأعمال. واعتبرت تلك المعركة هي الأهم بعد انهيار الإمبراطورية الحمراء. وعندئذ بدا أنه لا بد من البدء بإصلاح أحوال المنطقة الممتدة من بوغاز جبل طارق إلى جبال أفغانستان.

وتعالوا نراجع الورقة التي قدمها الرئيس بوش إلي مجموعة الثمانية في فبراير 2004، في سياق التبشير بنظرية المحافظين الجدد لدى كبار الفاعلين في القرار العالمي بمن فيهم الاتحاد الأوربي وحلف الناتو. وكانت الورقة تتضمن بكيفية جوهرية أن المنطقة الموبوءة إياها «تمثل تحديا وفرصة فريدة للمجتمع الدولي، وتنطوي على تهديد واضح للمصالح الوطنية لكل دول العالم».

وجاء في الورقة أن كتلة بشرية مهمة في المنطقة، هي الدول العربية، يكاد مجموع إنتاجها الوطني يماثل أقل من نظيره في دولة أوربية واحدة هي إسبانيا، مما يؤشر على هشاشة الأوضاع.

ومن مواصفات المجموعة المذكورة، أن أربعين في المائة من أفرادها أميون. وأنه بحلول سنة 2010 سيدخل سوق العمل فيها 50 مليون شاب، وسيضاف إليهم 100 مليون في 2020، وأن ثلث أفراد المجموعة يعيشون بأقل من دولارين في اليوم، وأن 51 في المائة من شبابهم عازمون على الهجرة إلى أوربا.

وأمام هذه الحالة القابلة للانفجار يجب على دول العالم أن تتحرك بنجاعة، من أجل مساعدة دول المنطقة على إعداد مخططات تؤمن تحسين مستوى المعيشة، وطرق التدبير، وخاصة إشاعة الديموقراطيا، وبناء مجتمع معرفي، وتوسيع الفرص الاقتصادية.

ومعلوم أن مواصفات الأزمة كما قدمتها الورقة تكاد تنطبق على جهات أخرى من العالم، في آسيا وأميركا اللاتينية، فضلا عن إفريقيا. ولكنه معلوم أيضا أن تلك المناطق ليس فيها شيئان، يحركان الصراعات التي تدور حولها السياسة العالمية، وهما البترول وإسرائيل.

وكانت مقاربات مماثلة سابقة مركزة على ضرورة سيادة الديموقراطيا في الدول المتخلفة عموما، قد بدأت تتردد في أفق السياسة العالمية منذ الثمانينيات، للتبشير بأن رؤية جديدة لأحوال العالم تدخل فيها المسألة الديموقراطية، يجب أن تصبح هدف أوليا للمجتمع الدولي.

وفي هذا الصدد بادرت الولايات المتحدة إلى تضمين عنصر حقوق الإنسان في معايير صياغة علاقاتها مع مختلف دول العالم، ونظم مؤتمر هلسنكي للسلم والتعاون في أوربا، وتم تسريع دمقرطة جنوب القارة الأوربية، ووصل الأمر إلى رفع شعار «حق التدخل الإنساني» لفرض احترام حقوق الإنسان.

وتطورت الأمور بسرعة حينما انهار جدار برلين، وشعر الرئيس بوش الأب في مستهل التسعينيات، أن في إمكانه أن يعلن «ميلاد نظام عالمي جديد». وتم ذلك في غمرة توجهين اثنين هما التكريس النهائي لمبدأ اقتصاد السوق، والتطور الهائل لتكنولوجيا الإعلام. وكانت أميركا وراء المسألتين، فهي التي تبنت المسلسل الذي أدى إلي التوقيع على ميثاق المنظمة العالمية للتجارة. وهي التي أفرجت عن نظام لتدفق المعلومات، الذي كانت تستعمله فقط في أغراض عسكرية، وأصبح متاحا للعالم أن يستعمل الشبكة العنكبوتية منذ بداية التسعينيات، بكيفية ازدادت اتساعا مع السنين، وازداد وضوحا أيضا أن تلك الشبكة تتطور تحت العين الساهرة في أميركا.

ونتيجة التفوق الأميركي المطلق، تكنولوجيا وعسكريا واقتصاديا، خامر المحافظين الجدد الشعور بأن شؤون العالم يجب أن تسير بالضغط على أزار في لوحة قيادة هم الماسكون بزمامها. وسجل حوزيف ني في كتابه «مفارقات القوة الأميركية» أن كوندوليزا رايس، وهي بعد أستاذة للعلاقات الدولية، قد كتبت أثناء الحملة الانتخابية في سنة 2000 أن الولايات المتحدة يجب أن تحدد أهدافها على الصعيد الدولي انطلاقا من مصلحتها الوطنية، وليس اعتبارا لمصلحة مفترضة للمجتمع الدولي. وكان هناك اتجاه يقول إن الولايات المتحدة يجب أن تكيف المحافل، التي يتخذ فيها القرار الدولي، بما يضمن السير في الخط الذي ترسمه هي. ذلك أن المحافل المتعددة الأطراف ومقتضيات «التعاون» تحد من حرية التصرف.

وأثناء ولايتين متواليتين للرئيس بوش الابن، رأينا أن تلك الفكرة، أي النظرة الأحادية للشؤون الدولية، أضحت هي القاعدة الذهبية للسياسة التي سارت عليها واشنطن. وكانت المنطقة العربية هي الشاشة التي عكست تطبيقات تلك السياسة، طيلة الوقت. وبتذكر ما حل بمنطقتنا، يشعر المرء وكأنه يعيد قراءة ما تم تدوينه في صفحات الموقع المشار إليه المحتضن لأفكار «مشروع القرن الأميركي الجديد».

وحدثت كثير من الأمور في العالم، دون أن تتأثر كثيرا أو قليلا بعقيدة المحافظين الجدد، أو برغبتهم. فقد ظهرت الهند والصين على نحو باهر كقوتين لهما اعتبار في خريطة العالم. وقد كرس توماس فريدمن كتابا لبيان ذلك وهو بعنوان «العالم مسطح». وهو يريد أن يقول بأسلوبه الرشيق أن العالم لم يعد كرويا، لأنه مجتمع يتكون من أجزاء بعضها بجوار بعض، وليس بعضها في جانب، وبعضها في جانب آخر.

ولا بد أن يخالجك وأنت تقرأ الكتاب، وهو في 472 صفحة في طبعته البرتغالية، شعور بأن الدول التي تتقدم، أنجزت ما خططته، لأنها قررت لنفسها أهدافا محددة، وتعبأت لإنجاز مخططاتها، ولم يوجد من يعرقل تقدمها. وهو ما يمكن قوله أيضا عن البرازيل، التي ما فتئت تستفيد من القاعدة الصلبة التي بناها العسكر، طيلة عقدين سادت فيهما عقيدة «الوطنية الاقتصادية»، لأن العسكر انخرطوا بجد في تجربة تقوم على أن البرازيليين يجب أن ينتجوا بأنفسهم كل ما يحتاجونه، من الطنجرة إلي الصاروخ. وكذلك كان.

إن الأمم التي تتسلح بمخطط، هي التي يمكنها أن تتقدم. وهذه هي القصة التي كتبتها كوريا الجنوبية، وماليزيا، وسنغفورة، وقبلها اليابان. وقطار الراغبين في التقدم سائر لا ينتظر المتعثرين. والعبرة دائما هي بوجود مخطط للإصلاح ينبع من الذات. وهو ما حاوله العرب في قمة تونس. حاولوا أن يوجدوا جوابا على مشروع الشرق الأوسط الكبير. ذلك المشروع الذي لم يتحقق منه، إلا ما كان من تدمير العراق، وإتلاف معالم الطريق نحو إقامة الدولة الفلسطينية.

ربما جاز لنا أن نتوقع الآن أن درجة الأحادية القطبية قد تخف. وربما تعود أميركا إلى أن تتعامل مع العالم، بإدراك جديد للأمور. ولربما تساعد على ذلك أزمة القوقاز.

ربما يصحو العرب ويبادروا، وهو الأهم، إلى أن يصنعوا مشروعهم. منذ أكثر من قرن توالت المشاريع المخطط لها من قبل الغير. لم تكن هناك مبالغة في ورقة بوش إلي مجموعة الثمانية، حينما نص على أن مصير العالم مرتبط بما يحدث في هذه المنطقة. وسيصنع العرب كثيرا من الخير لنفسهم وللعالم إذا ما قرروا أن يملكوا مقاليد مصيرهم.