عزف الكمنجات

TT

نادراً ما أذهب للمستشفيات لزيارة المرضى إلاّ إذا أجبرت على ذلك، وإذا مرضت لا أريد أحداً أن يزورني، لأنني أريد أن أظهر أمام الناس دائماً وأنا في أحسن حالاتي، لا أن يشاهدوني منطرحا كالبعير أحنّ وأون.

وقبل عدة أيام اضطررت مرغماً لمرافقة أحدهم لزيارة صديق مشترك استأصلوا حنجرته، ولا تتصوروا مقدار الكرب الذي كنت فيه طوال الطريق قبل أن نصل إلى المستشفى، فمجرد إحساسي بأن ذلك الشخص أصبح لا يستطيع الكلام إطلاقاً ولا التعبير عن نفسه بواسطة الصوت، هذا الإحساس فقط جعلني (اندفس) في مرتبة السيارة ولا يكاد رأسي يظهر من زجاج النافذة.

وزاد من كربي أن الخيال ذهب بي بعيداً وتصورت نفسي لو أنني كنت مكانه، صحيح أن صوتي ليس جميلاً كثيراً، وهو أقل جمالاً من صوت عبد الحليم، وصحيح أن كلامي قليل وتعبيري سقيم، ولكنني من هُواة (الزعيق) أحياناً، ومن هواة كيل الشتائم إذا ضاقت بي الدنيا، ومن هواة الغزل إذا استخف بي الطرب، فكيف يتسنى لي ذلك إذا كانت حبالي الصوتية قد اجتثت من جذورها وألقوا بها في صندوق النفايات؟!

وصلنا ودخلنا وكانت المفاجأة غير المتوقعة، إذ وجدنا المريض بحالة نفسية مرتفعة، وابتسامته الصامتة تملأ وجهه، فرح بنا المسكين وعانقنا عناقاً حاراً.

وأخذنا نتحدث معه بالإشارات وبالكتابة على الورق، وفهمنا منه أنه يريد أن يخاطب كلا منا على حدة، فامتثلنا لطلبه، وأخرج آلة تسجيل كان قد سجل عليها قبل أن يدخل لإجراء العملية التي استأصلوا فيها حنجرته، سجل فيها بصوته عبارات لمواجهة المطالب الروتينية، وتحية لأصدقائه، وبعض الأمور العادية، كذلك بعض اللعنات والتحديات.

وفتح المسجل وأشار لزميلي بعلامة أن ما سوف تسمعه هو موجه لك، وإذا بصوته الذي نعرفه يأتينا مرحباً ومهللاً به، ثم أقفل المسجل، وفتحه مرة أخرى على تسجيل آخر وأشار لي أن ما سوف أسمعه هو موجه لي، وإذا بصوته يأتيني مع مجموعة من السباب المحترمة والتحديات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وضحكنا كثيراً إلى درجة أن بعض الممرضات من كل صنف ولون تكالبن علينا وتحولت الغرفة إلى مسرح كوميديا.. غير أن ما أحزنني إلى درجة البكاء هو عندما فتح المسجل وسمعت صوته وهو يغني: إمتى الزمان يسمح يا جميل وأعيش معاك على شط النيل، ونظر لي بعين دامعة يريد أن يذكرني عندما كنت أسير معه قبل سنوات مساء على كورنيش النيل في القاهرة، ونأكل (الترمس)، وهو يغني تلك الأغنية، وكان وقتها غارقاً في قصة غرام إلى (شوشته)، غير أن مَن أحبها تنكرت له مع الأسف، ولا يزال عازباً على (باب كريم).

وما أن ودعناه وخرجنا حتى قلت بصوت مسموع: أشهد ألاّ إله إلا الله، نهرني زميلي قائلاً: كان من المفروض أن تقول: الله يشفيه بدلاً من أن تتشهد، لكن ما فيك فايدة دائماً أعوج وأناني.

ومن يومها أصبح لا همّ لي إلاّ تأمل حناجر الناس والتنصّت على أصواتهم، واكتشفت أن أصوات بعضهم تشبه خوار الثيران، وبعضهم مأمأة الماعز، وبعضهم نقيق الضفادع، وبعضهم فحيح الأفاعي، وبعضهم نعيق الغربان، وبعضهم حشرجة الشخير، وبعضهم قرقرة الأمعاء، وبعضهم عزف الكمنجات.

والحمد لله أن صوتي من الفئة الأخيرة.

[email protected]