حسن سليمان: على ظهر جواده إلى النهاية

TT

حسن سليمان ابتكار فى ذاته، عرفت كتابته وأحببتها قبل أن أعرف من هو. كان هناك في الستينيات مجلة اسمها «الكاتب» وكان حسن سليمان يكتب فيها مقاله الشهري تحت عنوان ثابت هو: «فنون تشكيلية». فتنت بأسلوب الكتابة والمزاج الغاضب الحزين من ورائها، ربما لأنني لاحظت أنها تشبهني، كأنني أنا صاحبتها، أو كأنني كما أتمنى. كان ذلك عام 1968، حسن سليمان يكتب بشوق وتوق وعنفوان وتمرد وشجن وصخب أنيق لاذع، وتتلاحق تحت قلمه الصور الشعرية الغريبة والنادرة المازجة بين الخشونة والرقة في إيقاع باهر يغسل القلب من الحزن، وما يلبث حتى يملأه بحزن جديد تفرح به بدلا من الركون إلى الصدأ.

نهاية 1968 سعيت لمقابلته وقلت له: أنت من أهم كتاب مصر وأفضل كاتب أقرأ له. مط شفتيه وهز كتفيه وقال: بلغت الأربعين من عمري. قال ضيف عنده: حسن فنان تشكيلي قبل أن يكون كاتبا. تنقلت بين اللوحات وكانت على الحامل لوحة لفتاة، اللون الأزرق غالب ومنجرف نحو الرمادي الذي أمقته. تأملت حسن سليمان وهو يتحرك يستخرج كنوزه. على قصر قامته كان يرفع رأسه ويشد ظهره ويتنقل بخطوات عملاق يخشى أن يصطدم رأسه بالسقف. عدت أحدثه عن الكتابة متغاضية عن اللوحات، فقد كانت هي الجانب الفذ الذي أراه لديه: يكتب نقدا، يكتب شرحا، يكتب تحليلا أو بوحا عن أوجاع الذات، الوطن/الذات، الذات/الذات، الإنسانية/ الذات، هو كاتب في مدرسة فن كتابة كان أحد روادها الدكاترة زكي مبارك وحسن سليمان المستميت في الإخلاص لها.

حين جاءت آزفة الهجمة المكارثية اليوسف سباعية صيف 1971، ذهبت أزور حسن سليمان، وكنت واقعة لتوى تحت طائلة قرار منعي من النشر، انبرى متحدثا بادئا بمنع مجلة «الكاتب» عن الصدور. لم يكن مندهشا، كان الأمر عنده ضربة جديدة فوق رأس تعودت الضربات والإغماءات وسالت منها الدماء كثيرا وبغزارة وكان يعرف، كما هي الحال في كل الحادثات، أن المندهشين سوف يملون الدهشة بعد قليل، بعد أن تدفن جثث القتلى ويلعق المصابون جراحهم ويتعودون عليها ولا ينطق أحد بما جرى لأن الناس لا تحب أصداء الأنين.

استغرق حسن سليمان في الحديث وتفرع منه إلى جزر متناثرة، يقفز من جزيرة إلى أخرى وتحت إصبعه في كل جزيرة اسم لمثقف أو كاتب مشهور يطرحه أرضا ويفعصه (وكانت كلها أسماء تستحق ذلك)، ويقول: انظري ماذا يفعلون بأنفسهم؟ لماذا نستغرب بعد ذلك الجرأة على الثقافة وبهدلة الفنانين والكتاب؟

كان الوقت غروبا فلم أر بقعة الضوء التي تبعثها الشمس إلى مرسمه والتي تكلم عنها كثيرا في كتابته. بعد سنوات شالتنا وحطتنا أرسل لي كتابه «حرية الفنان»، ما أن هاتفته لأشكره حتى قال: بلغت ستين سنه! ضحكت: فاتني أن أسمعك حين بلغت الخمسين! وأحمد الله أنني سمعته في 25 أغسطس 1998 يقول بنفس نبرة الشكوى الفخورة: بلغت السبعين! وكنت أنتظر 25 أغسطس هذا العام لاسمع منه: بلغت الثمانين! غير أنه كان على موعد مع الأجل فجر الجمعة 15 أغسطس 2008.

أذكره بكلمته للأستاذ الأمريكي: «ما زلت على ظهر جوادي!» وهي جمله تشبه مقولة الحكيم بلوتارك: «لا أريد أن أزيد بلادي فقرا برحيلي عنها».