المواجهة الحذرة

TT

خلال الشهر الذي مضى منذ الغزو الروسي لجورجيا، انتهجت إدارة بوش سياسة لا بد وأنها تسعد بعض النقاد الليبراليين وتثير ضيق العناصر المحافظة المتشددة. وتركزت هذه السياسة حول محاولة مساعدة الجورجيين على التعافي من تداعيات هذه الأزمة دون اللجوء إلى زيادة الضغوط على عاتق روسيا.

وتقوم هذه السياسة على العمل مع الحلفاء الأوروبيين وتجنب إطلاق التهديدات العسكرية الأميركية الانفرادية التي قد تثير الخوف في نفوسهم وتدفعهم للابتعاد عن واشنطن. كما عمدت واشنطن إلى التخفيف من حدة سياستها بناء على ما تعلمته من الأخطاء التي سبق وأن ارتكبتها في التعامل مع الرئيس الجورجي ميخائيل ساكشفيلي المتقلب المزاج، والتي مهدت الساحة أمام الهجوم الذي شنه في 7 أغسطس (آب) ضد أوسيتيا الجنوبية والذي جاء مفتقراً إلى الحكمة وأثار رد الفعل الروسي الانتقامي.

باختصار يمكننا القول إن الإدارة شرعت في اتباع سياسة تتضمن بعض دروس السياسة الخارجية التي تعلمتها قرب نهاية فترة عملها. والمثير أن ملامح هذه السياسة جاءت أقرب إلى رد الفعل الحذر الذي أبداه المرشح الديمقراطي للرئاسة باراك أوباما عن الآخر الذي اتسم بقدر اكبر من المواجهة الصادر عن المرشح الجمهوري للرئاسة جون ماكين. وجاء محور هذه السياسة متمثلا في الإعلان الصادر أخيرا بأن الولايات المتحدة تنوي تقديم ما يصل إلى مليار دولار لجورجيا كمساعدات إنسانية ولإعادة الإعمار، لكنها لن تقدم مساعدات عسكرية جديدة لإعادة بناء الجيش الجورجي مثلما كان يأمل البعض داخل تبليسي وواشنطن. من ناحيته، قام ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي بجولة في المنطقة في محاولة لإضفاء مظهر صقوري على السياسة الأميركية ودعم جيران روسيا. إلا انه في حقيقة الأمر تسعى السياسة الأميركية إلى تجنب اندلاع حرب باردة جديدة أكثر من التشجيع عليها.

ومن خلال التركيز على المساعدات المدنية، تبعث الإدارة الأميركية بعدة رسائل: فهي تبث الطمأنينة في نفوس الأوروبيين من أنها لن تُقدم على إضفاء صبغة عسكرية على الأزمة الجورجية وتحويلها إلى مواجهة أميركية ـ روسية، وفي الوقت ذاته تنبه ساكشفيلي إزاء ضرورة المضي قدماً ببطء وتجنب المزيد من الاستفزازات ضد موسكو التي من شأنها الإضرار به. ويسود اعتقاد لدى مسؤولي الإدارة الأميركية بأن ساكشفيلي ارتكب خطأً بدعوته في منتصف أغسطس لإعادة تسليح جورجيا بسرعة. ويرى البعض أن الرسالة التي يبعث بها بوش إلى ساكشفيلي مفادها: «نحن بجانبك، ونتعامل مع مسألة الحفاظ على بقائك ومصالحك بجدية، لكن عليك التحلي بالذكاء وعدم إعطاء موسكو ذريعة للتحرك ضدك». في جزء منها، تمثل هذه الرسالة انعكاساً للإحباط الذي تستشعره الإدارة حيال تجاهل ساكشفيلي نصائحها المتكررة على مدار العامين السابقين له بتجنب استفزاز روسيا فيما يخص إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية المتنازع عليهما.

وبعد الوعود التي قطعوها على أنفسهم أمام موسكو بكبح جماح ساكشفيلي، شعر مسؤولو الإدارة الأميركية بالغضب جراء الهجوم الذي شنه في 7 أغسطس ضد أوسيتيا الجنوبية، والذي يعتقدون أنه رمى الى إقرار وضع قائم قبل أن يتمكن الروس من الرد. ويبدي المسؤولون الأميركيون تشككهم إزاء ادعاء ساكشفيلي بأن الروس كانوا يحركون قواتهم بالفعل بمنطقة نفق روكي باتجاه أوسيتيا الجنوبية عندما شنت جورجيا هجومها. وتتمثل المعضلة الأكبر التي تواجه الإدارة في كيفية إقناع موسكو بأنها ارتكبت خطأً فادحاً بغزوها جورجيا، دون دفعها للشعور بعزلة أكبر والإقدام على المزيد من التوجهات العدائية. ويعتقد مسؤولو الإدارة أن روسيا تشارك بإحدى قدميها بالفعل في عالم القرن الحادي والعشرين ولها مصالح متنامية في السوق العالمية. إلا أن واشنطن تنظر إلى رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين، والذي تولى إدارة السياسة الروسية تجاه جورجيا، باعتبار أنه يحتفظ بقدمه الأخرى في القرن التاسع عشر، حيث يغلف مصالح موسكو بهالة «القوة العظمى» ويؤمن بأن السيطرة الفعلية على الأراضي هي المفتاح لضمان الأمن والاستقرار.

ومن الواضح أن موسكو تكبدت ثمناً اقتصادياً كبيراً على امتداد الشهر السابق بسبب استراتيجية بوتين، حيث انهار الروبيل الروسي بقوة، مما دفع المصرف المركزي للتدخل لدعم العملة. كما انهارت البورصة الروسية، حيث فقد مؤشر آر تي إس حوالي 290 مليار دولار من قيمته منذ 7 أغسطس. وخوفاً من ميل بوتين لخوض المغامرات، سحب المستثمرون 21 مليار دولار من البلاد على امتداد الأسابيع القليلة السابقة، طبقاً لتقرير عن مؤسسة غولدمان ساشز أشارت إليه صحيفة «فايننشال تايمز». وترغب الإدارة الأميركية في الحيلولة دون دفع بوتين روسيا من على حافة هاوية، وتنظر إلى خليفته، الرئيس ديمتري ميدفيديف، باعتباره رجلا يدرك تماماً أن مستقبل روسيا يتركز في أن تصبح قوة على نهج القرن الحادي والعشرين. لذا، ترغب الإدارة في تجنب اتباع استراتيجية تقوض عن غير عمد موقف ميدفيديف وتعزز معسكر بوتين.

هذا هو ما خلصت إليه إدارة بوش فيما يخص ما قد يشكل آخر الأزمات التي تواجهها على صعيد السياسة الخارجية، فلم تلجأ الإدارة إلى الوعيد أو الدعوة لطرد روسيا من مجموعة الدول الثماني العظمى، مثلما دعا ماكين، وإنما بذلت جهوداً دؤوبة بالتعاون مع أوروبا والدبلوماسيين الفرنسيين تحديداً. وانتهجت الإدارة سياسة تقوم على فكرة أن أسواق رأس المال العالمية تشكل عامل كبح أفضل من اللجوء لإطلاق التهديدات الأميركية.

* خدمة «واشنطن بوست»

ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)