الغياب الصيني

TT

زادت حمى الانتخابات التي تعيشها الولايات المتحدة من سخونة الأجواء داخلها، ولذا فمن غير المتوقع أن تعود الولايات المتحدة إلى حالتها الطبيعية إلا في العام القادم، بعد أن تحل إدارة جديدة في البيت الأبيض. غير أنه في وجود المناخ الذي يسود العالم الآن تلوح الحاجة بشدة إلى قيادة جديدة لعدد من القضايا الدولية بداية من الأزمة المالية التي تواجه الولايات المتحدة إلى محاولة إعاقة الطموحات النووية الإيرانية أكثر من ذي قبل. فتلك القضايا لا يمكن تأجيلها إلى عام أو عامين قادمين حتى تسوي الولايات المتحدة نزاعاتها الداخلية، ولكن حتى وإن حدث ذلك فالسياسيات التي ستنتهجها الإدارة القادمة بشأن القضايا الرئيسة في العالم غير واضحة تماما.

فالديمقراطي الطموح باراك أوباما لم يقدم أي سياسات واضحة حول تلك القضايا، بغض النظر عن إشارته إلى أنه سيفعل عكس ما قام به الرئيس جورج بوش، لكنني أعتقد أنه إذا ما فاز بالرئاسة سيجد الحديث أكثر سهولة من التنفيذ.

وأحد أبرز النقاط التي يهاجم بها الديمقراطيون نظراءهم من الجمهوريين، أن ماكين جاء ليكمل «الفترة الرئاسية الثالثة لجورج بوش»، بيد أن ذلك الاتهام ليس صحيحا على الإطلاق، فقد خالف ماكين بوش في العديد من القضايا المحورية، والمتفحص في فريق المستشارين الخاص به سيجد أن أيا من مساعدي بوش غير موجود بينهم. إذا فماكين يرغب في أن ينأى بنفسه عن أن يبدو كمن ينتظر دعمه، ومن ثم لم يدع بوش إلى أي من مؤتمراته الانتخابية. لكن في الوقت الحالي، على الأقل، لا يبرز سوى الولايات المتحدة كلاعب أساسي على الساحة الدولية يمكنها الاضطلاع بحل قضايا العالم، وهي مكانة لا أعتقد أن أحدا بإمكانه أن ينازعها إياها خلال عقد قادم أو ما شابه ذلك.

ومن ثم فإن الفجوة التي أحدثتها الانتخابات الأميركية تمثل لحظة من الشك في النظام العالمي. غير أن ذلك لا يعني أن يقف بقية العالم مشدوها يشاهد روما وهي تحترق، فلاعبون آخرون من الاتحاد الأوروبي والصين واليابان مرورا بروسيا والبرازيل والهند يمكنهم، بل ويجب عليهم مد يد العون في تذليل العقبات التي تواجه المجتمع الدولي ما دام في مقدورهم ذلك.

لكن الحقيقة أن كل أولئك اللاعبين تعوزهم القوة الاقتصادية والعسكرية والفعالية السياسية. فالاتحاد الأوروبي يمكنه أن يلعب دورا، لكن ذلك الدور لا يكون مبنيا إلا على القواسم المشتركة فقط (داخل أوروبا)، وهو ما يعني أنه قد ينتهي به الأمر متبنيا موقفا لا يستطيع مواجهته، كما شهدنا في المبادرة الخاصة بالغزو الروسي لجورجيا وضم أجزاء منها.

وروسيا التي تمتلك كل المقومات، ضيعت كل تلك الزعامة والريادة التي كانت تدعيها عندما تورطت في نزاع حدودي مع جورجيا، إحدى دول الجوار الصغيرة بالنسبة لها، وقد كان ضمها لكل من إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا خطأ كبيرا في مصالحها الاستراتيجية كقوة عالمية رائدة، فقد أفسحت المجال لتصويرها على أنها دولة مستأسدة كبيرة تنخرط في نزاع محلي مع قزم صغير.

والبرازيل على الرغم من كونها «قوة إقليمية كبيرة» في أميركا اللاتينية إلا أنها لا تزال تفتقر إلى المكانة الدولية، وأفضل ما تستطيع القيام به هو محاولة احتواء خروج مجموعة جديدة من القادة الراديكاليين، مثل هوغو شافيز في فنزويلا، وإيفو موراليس في بوليفيا، الذين يدفعون بلادهم نحو حرب أهلية.

والهند من جانبها لم تبحث لنفسها عن دور ريادي منذ وقت حركة عدم الانحياز، ومع بعض الاستثناءات القليلة كمتابعتها للشأن الأفغاني، يبدو أنها غير راغبة في التدخل لأبعد من مصالحها القومية.

واليابان على الرغم من أنها ثاني أكبر قوة اقتصادية عالمية إلا أنها لم تكن قادرة على الاعتماد على ذلك في المجال السياسي، فلا تزال تلك الدولة المسنة يتملكها الأسف تجاه ماضيها العسكري. كما أنها يعوقها أكثر من عقد من شبه ركود اقتصادي.

وهذا ما يترك الصين التي يعتبرها الكثيرون القوة الناشئة الكبرى في آسيا. وعلى الرغم من أنني لا أرى أي توقعات للصين على المدى البعيد، وأعني بذلك في العقود الثلاثة أو الأربعة القادمة، فإن الصين لديها ما يكفي من القوة سواء في الناحية الاقتصادية أو العسكرية لتطالب بدور أكبر على الساحة الدولية.

والصين معدة لأن تكون ثاني أكبر اقتصاد في العالم في السنوات الأربع أو الخمس القادمة، فقد وطدت من صداقاتها مع أكثر من 60 دولة على مستوى العالم تقع غالبيتها في أفريقيا، ولأنها من أكبر مستوردي النفط الخام في العالم، فقد اعتمدت على السوق العالمية للطاقة بصورة كبيرة، كما أنها تعد ثالث مصدر للسلاح إلى العالم، وهي مكانة تحمل في طياتها نفوذا سياسيا كبيرا.

وعندما يتصل الأمر بالأزمة المالية التي تجتاح العالم سنجد أن الصين من بين الدول التي تحمل أكبر ودائع دولارية في العالم وأحد أكبر خمس دول لها استثمارات في الاقتصاد العالمي، تتمتع بمكانة من النفوذ تأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، ولأنها أحد الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن وتملك حق النقض فبإمكانها أن تطلق أي مبادرة دولية كبرى أو أن تعيقها.

والدور الصيني يعد حاسما في عدد من القضايا، إذا ما توقفت عن دعم النظام المتخبط في كوريا الشمالية، فإن كيم إل يونغ غانغ سيجد صعوبة في التشبث بمبدأ القوة وسيتخلى عن سعيه وراء امتلاك الأسلحة النووية. وربما يكون تغيير السياسة من قبل الصين في صالح توحيد شبه الجزيرة الكورية تحت نظام تعددي لا شيوعي.

وفي نفس السياق إذا ما توقفت الصين عن دعمها لأنظمة الجنرالات الحاكمة في بورما (ميانمار) فلن يتمكن الجنرالات من الصمود في وجه الحركة الديمقراطية المتزايدة في تلك البلاد غير السعيدة.

وعلى الرغم من مجاورتها لأفغانستان إلا أن الصين لم ترغب في الاضطلاع بدور بارز على الساحة هناك. والحقيقة أنها شجعت باكستان على انتهاج سياسة مزدوجة نحو النظام الجديد في كابول، ومن بين كل القوى الكبرى ولأسباب تاريخية وجغرافية يمكن للصين أن تساعد أفغانستان في تحقيق الاستقرار.

وكذلك فإن الدور الصيني محوري في إقناع نظام الخميني في طهران بتهذيب سياسته الخارجية الجامحة، وكذلك مساعيها للحصول على الطاقة النووية. ويمكن لرسالة توصلها بكين بأن وجود الجمهورية الإسلامية المسلحة نوويا أمر غير مقبول، أن تحول النقاش في طهران لصالح أولئك الذين يعارضون سياسات الرئيس محمود أحمدي نجاد الراديكالية.

وبالمثل فبإمكان الصين أن تلعب دورا بارزا في إقناع الهند وباكستان بتسوية مسألة كشمير الشائكة إلى الأبد، وليس بسر أن الدعم الصيني على مدى العقود الأربعة الماضية كان العنصر الرئيس في اتخاذ باكستان هذا الموقف المتعنت حول المسألة.

وعلى الرغم من أن الصين ظلت على جانب من الساحة الدولية لما يزيد عن عقد من الزمان، والسبب في ذلك أن الحكومة الصينية كانت تحاول تركيز جهودها في إقامة الأولمبياد كي تكون بداية انطلاقة لصين جديدة، وقد انتهجت الصين سياسة خارجية جديدة حملت شعار «لا أعداء»، وهو ما يعني أن الصين ستنأى بنفسها عن معارضة قد تغضب أي شخص، حتى وإن كان مثل الطاغية المفلس روبرت موغابي في زيمبابوي.

غياب الصين عن الساحة الدولية سيضر بالصين وبالعالم، فقد انتهت الأولمبياد ومع نهايتها ابتدأت السمة الجديدة للصين، وقد حان الوقت لأن تتحمل الصين مسؤولياتها كقوة كبرى تعمل من أجل إنهاء الصراعات وإحلال السلام.