حوار بلا مصالحة في لبنان

TT

عرف اللبنانيون كيف بدأ الحوار في القصر يوم الثلاثاء الماضي، لكنهم لم يعرفوا كيف انتهى ولا إلى ماذا انتهى. كل ما عرفوه أنه تأجَّل إلى الخامس من تشرين الثاني، أي بعد شهرٍ وثلاثة أسابيع. وعلَّل رئيس الجمهورية ذلك، بأنه سيذهب الآن إلى الولايات المتحدة، وسيقوم بعدها برحلاتٍ في الدول العربية. بيد أنّ هذه الرحلات الممتدة لا تستغرق بالطبع الشهرين القادمَين. ومما يؤكّدُ هذه التساؤلات إعلان الرئيس أنه سيُجري مباحثات ثُنائية لتذليل العقبات، ولأمرٍ آخَرَ طريف هو إرضاء حزب الله وأنصاره بالتشاوُر من خارج إطار المؤتمر مع شخصيات وجهات يريدها الحزب أن تكونَ حاضرةً على طاولة الحوار، على الرغم من أنها ما كانت في الحوار الأول!

على مشارف انعقاد مؤتمر الحوار، بعد أن أعلن رئيسُ الجمهورية عن موعده، حدثت عدة أمور ذات دلالة. قال الجنرال عون إنه كان يفضّل أن لا ينعقد المؤتمر إلاّ بعد الموافقة على قانون الانتخابات الجديد في مجلس النواب! وما درى أحدٌ ما علاقةُ هذا بذاك، إلى أن أضاف الجنرال عون عشية مؤتمر الحوار إضافةً شديدة الهول والدلالة. قال الرجل: إن كانت هناك موافقةٌ في المبدأ على المقاومة، فلا حاجة لمناقشة الاستراتيجية الدفاعية في مؤتمر الحوار، لأنّ الأمر يُصبحُ عندها تقنياً تحلُّه اللجانُ المشتركةُ بين الجيش والمقاومة العتيدة! وفهمْنا عندها أنّ الحزب منزعجٌ من العودة إلى مناقشة موضوع سلاحه، وأن ّالجنرال كلَّفَ نفسَه أو كُلِّفَ بذلك. وبقدر ما كان الحزب محظوظاً بالجنرال عون حليفه الكبير، كانت قوى 14 آذار وتيار المستقبل بالذات قليلة الحظّ مع وليد بك جنبلاط. فعلى مشارف الحوار أيضاً بدا أنه يُلاقي الجنرال عون أو الحزب نفسَه وبشكلٍ مباشر. فقد أثار ضجةً قبل أسبوع بالتسريبات التي أدلى بها للصحافي إبراهيم الأمين في صحيفة الأخبار، القريبة من الحزب وسورية. وليس المهمّ الكلام الشخصي الذي قاله وليد بك عن سعد الحريري ومُعاونيه، بل المهم ما قاله عن ثلاثة أمورٍ أُخرى: ما جرى بطرابلس، وما جرى يوم 7/8 أيار (مايو) تاريخ دخول الحزب إلى بيروت بالسلاح، وأخيراً فهمُهُ اللاحق الذي أعلن عنه لوظيفة سلاح الحزب. ما جرى بطرابلس اعتبره وليد جنبلاط نتيجة خطأ جرى استدراكُهُ، والخطأُ جاء من وراء التحالُف مع السلفيين! كأنّ السلفيين هم الذين بدأوا الاضطراب، وليس جماعة جبل محسن. وبذلك يكون السنةُ أنفُسُهُم مسؤولين عن الاضطرابات هناك. إنما الأدهى ما قاله عن بيروت في مايو الماضي. ففي رأيه أنه كانت هناك استعدادات ميليشياوية قمنا بها نحن، وبررت للحزب هجومه! وهذا الكلام رأيتُه على أوراق وزّعها الحزب على عددٍ من السفارات العربية والأجنبية بعد غزوة بيروت، وكرّره محمد حسنين هيكل كما هو معروف على الجزيرة وفي نادي القُضاة المصري. إنما الطريفُ في هذا السياق أمران: أنّ هذه الميليشيا الشديدة الهول والتي أخافت الحزب ما وجدْنا لها أثراً منذ ذلك الحين وحتى اليوم! وأنّ وليد بك ينسى الأسباب المعلنة التي توسَّلَ بها الحزب للدخول المسلَّح إلى بيروت وفي طليعتها القراران الشهيران اللذان ما كان يمكن إقرارُهُما في مجلس الوزراء لولا إصرار وليد بك عبر وزرائه على ذلك! ويبقى الأمر الثالثُ الذي أشار إليه جنبلاط في أحاديث أُخرى عشية الحوار. عون موافقٌ على سلاح المقاومة في المبدأ، ولا يريد متابعة التفاصيل، وجنبلاط يريد استنباط وسائل للاستفادة من سلاح الحزب وخبراته في مقارعة إسرائيل. عندما سمعتُ وليد بك على التلفزيون يطالب بالاستفادة من سلاح الحزب وخبرته، حبكت معي النكتة كما يقول اللبنانيون، وتذكرتُ قصة الفيل الذي أطلقه الملك في المدينة يعبثُ ويلهو. وعندما اشتد انزعاجُ الناس منه شكّلوا وفداً للاحتجاج لدى الملك على فيله، وتلعثم رئيس الوفد أمام الملك واستعصى عليه الكلام، وعندما استحثّه الملكُ غاضباً وسائلاً عما يريدون، قال: الفيل يا ملكَ الزمان! وقال الملك: مالو الفيل؟ وقال رئيس الوفد: الفيل عايز فيلة! فانفرجت أساريرُ الجميع، وانجلّت الأزمة! الفيل عايز فيلة، ونحن عايزين الاستفادة من الحزب وسلاحه، وكفى الله المؤمنين القتال!

عشية الحوار إذن تكوَّن مشهدٌ شكسبيري حفل بالعرّافات والساحرات. وكان الناقص بعد ظهور الساحرات بمكانسهنّ: الدم! والدمُ يستدعي الدم. فقد اغتيل صالح العريضي مساعد طلال أرسلان، وهو من أقطاب المعارضة السابقة، والذين انضووا تحت لواء سورية منذ عقدين، وتحت لواء الحزب منذ سنتين! ثم انفجرت قنابل أحدثت جرحى في بعض شوارع بيروت، وأطلق مسلَّحون النار على متظاهرين من السُنّة بقرية تعلبايا بالبقاع، فقتلوا شاباً، وجرحوا ثلاثةً آخرين. وفي حين ما اتُهم أحدٌ باغتيال العريضي غير إسرائيل، قالت وسائل الإعلام إنّ الذين شاغبوا ببيروت والبقاع هم محسوبون على حركة أمل.

وبدأ الحوارُ في القصر الجمهوري بخطابٍ للرئيس حاول فيه إرضاء الجميع، وذكَر من ضمن ما ذكر الإفادة من قُدُرات الحزب. وما جرى بعد ذلك غير مهم، فالأهمُّ في الاجتماع أنه حصل بحضور الجميع، وبذلك ما خُيِّبَ الرئيس عشية سفره إلى وشنطن ونيويورك، وطوافه بالدول العربية. وإذا كان لا بُدَّ من ذكر بعض التفاصيل المتسرّبة؛ فالذي حصل أنّ الجنرال عون كرّر في المؤتمر ما قاله في التلفزيون، وأنّ الرئيس الجميّل ردَّ عليه، وما قبل أُطروحته المبدئية أو التقنية. ثم إن ّالنائب محمد رعد انصرف للمطالبة بتوسيع المشاركة في مؤتمر الحوار من طريق إحضار بعض أنصار الحزب إليه من سائر الطوائف وبخاصةٍ بعض السنّة والمسيحيين. واعترض ممثّلو 14 آذار، في الوقت الذي اهتمّ فيه رئيس الجمهورية بجمع الرئيس بري مع سعد الحريري وجنبلاط ورعد في مكتبه، لضمان التهدئة خلال الأسابيع التي يغيبُ فيها الحوار. وبالفعل جاء في البيان الذي صدر حديثٌ عن التهدئة في الإعلام. أمّا بقيةُ الحاضرين فقد ركّزوا على الوضع الأمني، وضرورة إيقاف سفك الدم، قبل أي شيء آخَر!

وما كاد المجتمعون ينفضُّون حتى ظهر السيد حسن نصر الله في التلفزيون في حديثٍ رمضاني، فأكمل الإرهاصات التي ظهرت قبل المؤتمر. أثنى السيد نصر الله على كلام رئيس الجمهورية في بدء المؤتمر. ثم انصرف للتعظيم من شأن حرب تموز، وكيف أنها غيّرت التكتيكات العسكرية في العالَم. ثم شنّ حملةً في ثلاثة اتجاهات: حمل على وسائل الإعلام اللبنانية والعربية. وقال إنه سيلاحقها أمام القضاء كما فعل حليفهُ الجنرال عون مع الجريدة اللبنانية الناطقة بالفرنسية لورين لوجور! ثم أشاد بعملية 7/8 أيار( مايو) ضد بيروت، وقال إنها قضت على مؤامرة كبرى ضد المقاومة. فخالف بذلك إشارات للتصالح كان قد أرسلها تُجاه بيروت وتيار المستقبل والنائب سعد الحريري. وأصرَّ ثالثاً على توسيع المشاركة بالمجيء بأنصار الحزب إلى الحوار، باعتبارهم كانوا جزءًا من النصر الذي حقّقه الحزب في سائر الساحات. وبذلك أنْهى السيد نصر الله الآمال القليلة التي تبقّت للحوار وفيه، فهو لا يريد مُصالحةً مع السُنّة الآن، وهو يعرفُ أنّ الآخرين لن يقبلوا بتوسيع المشاركة في الحوار، ولذا لن يكونَ هناك أملٌ في الاجتماع مرةً أُخرى، إذا استمرّ السيد نصر الله على إصراره.

لماذا كان ما كان؟ الواضح أنّ حزب الله لا يريد حديثاً عن سلاحه الآن، ولو كان في التنسيق بينه وبين الجيش. فهل لأنه لا يقبل التراجُع عن شيء قام به مهما بَلَغَ صِغَرُه؟ أم لأنه ما يزال ينتظر شيئاً في المنطقة من جانب إسرائيل أو الولايات المتحدة أو هما معاً؟ اللافتُ أنه قبل يومين قال الإيرانيون إنّ المرشد الأعلى للثورة عهد للحرس الثوري الإيراني بحماية أمن إيران من جهة الخليج، والسيطرة عليه. والحرس الثوريُّ تشكيلاتُهُ مثل تشكيلات حزب الله، وهو الذي أنشأ الحزب على مثاله كما هو معروف. فهل تريد إيران أن تُشعر الأميركيين مع عودة التصاعُد في الملفّ النووي على المستوى الدولي، أنها مستعدةٌ للقيام بعمليات ثورية مسلّحة في مياه الخليج ضدّ السفن المارة، إن نشب النزاع؟ وهل لهذا الاستعداد والتحشُّد علاقةٌ بتغيُّر لهجة السيد نصر الله من التصالُح إلى الإثارة، من مثل قوله إنّ أنصاره الواحد منهم بمليون؟! وهكذا في الوقت الذي انصرف فيه مُعارضو الحزب داخل الحوار وخارجه، إلى استنكار الضغوط الأمنية، عادت وسائل إعلام الحزب لمجابهة الخصوم، وللتبشير بالانهيارين الإسرائيلي والأميركي. فالذي حصل حتى الآن: الحوار لكنْ بدون المصالحة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.