البابا في بلاد العلمانية

TT

كانت زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر لفرنسا الأسبوع المنصرم حدثا متميزا بدون شك، فاقت من حيث الاهتمام الرسمي والشعبي زيارات أسلافه السبعة عشر للبلاد التي كان يطلق عليها «البنت البكر للكنيسة».

في باريس، وأمام 700 من كبار المثقفين، ذكر بابا روما الفرنسيين بجذورهم الكاثولوكية، وتحدث بإسهاب وبلغة التجريد الفلسفي التي يتقنها عن مصائر الدين في العالم الراهن، وعن «العلمانية الايجابية» التي دعا اليها الرئيس نيكولا ساركوزي في خطابه الشهير بلاترن في ديسمبر المنصرم.

كان ساركوزي في الخطاب المذكور قد قال بالحرف: «أدعو من قلبي الى انبثاق علمانية ايجابية، أي علمانية لا تعتبر الأديان خطرا وإنما ميزة ايجابية». ولم يكتف الرئيس المشاكس بهذه المقولة، بل ذهب بعيدا في استفزاز التقليد اللائكي الذي يشكل عماد التجربة السياسية الفرنسية.

استخدم البابا عبارة «العلمانية الايجابية» في خطبه ومحاضراته في  فرنسا، انسجاما مع نظرة ثابتة في تفكيره لدور الدين المحوري في المجال العام، ما انفك يعبر عنها في كتاباته منذ اعتلائه لمركز البابوية، في قطيعة واضحة مع نهج سلفه يوحنا بولس الثاني الذي بقدر ما كان فاعلا نشطا في الساحة الدولية كان متشبثا بقوة بتوافقات المجمع الفاتيكاني الثاني التي تبنّت الخيار العلماني التقليدي بفصل الدين عن الشأن العمومي.

في هذا السياق يرى بنديكتوس السادس عشر ان المقاربة العلمانية كانت في البدء حاجة حيوية لحماية الكنيسة والديمقراطية معا بعد قرون من الحروب الدينية الدامية والمدمرة، لكنها قامت على مغالطة أصلية هي وهم إمكانية الفصل بين الاعتقاد الفردي والدائرة الجماعية. فبالنسبة له يشكل إقصاء الدين من الفضاء العام خطرا على التركيبة الروحية والإنسانية والثقافية لأوروبا «لأن أوروبا قارة ثقافية وليست قارة جغرافية. فثقافتها هي التي تمنحها هوية مشتركة. والجذور التي سمحت بتشكل هذه القارة هي الجذور المسيحية».

وغنيٌ عن البيان أن البابا يقفز على قرون ستة من تاريخ أوروبا تشمل تركة الإصلاح الديني والحداثة والتنوير، هي التي صاغت هويتها الراهنة، ويتبنى أطروحات الاتجاهات الأصولية الرافضة للتحديث باسم محاربة النسبية الثقافية والعدمية.

ينضاف الى هذا العامل أن أوروبا التي انهارت فيها الممارسة الدينية وأصبحت شديدة التنوع الديني (بدخول الإسلام بصفة خاصة كديانة ثانية) لم تعد مركز المسيحية الذي تحول الى أمريكا اللاتينية وأفريقيا حاملا بصمات الخصوصية الثقافية في هذه البلدان ذات الكثافة البشرية الواسعة.

وعلى الرغم من الاهتمام الذي خلفته تصريحات ومداخلات البابا المتناغمة مع خط «العلمانية الايجابية» التي تحدث عنها ساركوزي، إلا أنه من الجلي ان التجربة العلمانية في أوروبا ليست موضوع مراجعة جدية، كما ان عودة الدين للمجال العمومي ليست واردة. ويمكن فهم حديث الساسة الأوروبيين حول إعادة الاعتبار للديانة المسيحية بمعنيين :

أولهما التطلع الى إسهام المؤسسة الدينية في توطيد اللحمة الجماعية المتآكلة إثر تراخي القيم الجمهورية التي خلفت الدين في المنحى الاجتماعي، وهي تتعرض اليوم بفعل العولمة وتقوض البنيات المركزية للهوية والقرار لتحديات عصية. في هذا الباب تندرج دعوة ساركوزي الى تضمين المناهج التربوية النفحة المعيارية القوية للتعاليم المسيحية القائمة على الرحمة والحب.

وثانيهما البحث عن أرضية ثقافية صلبة للمشروع الأوروبي في اتجاه تحويله من دائرة للشراكة الاقتصادية الناجعة الى إطار سياسي وحضاري للتعبير عن الهوية الأوروبية الموحدة. من هذا المنظور نقرأ دعوة المستشارة الألمانية انجيلا ميركل الى النص الصريح في الدستور الأوروبي المقترح على المرجعية المسيحية للثقافة الأوروبية، كما نقرأ في الاتجاه ذاته مبادرة تحالف الديانات التي رفعها رئيس الحكومة الاسبانية زباترو في الآونة الأخيرة.

قد لا يكون البابا معنيا في المقام الأول بهذين الهمين، وهو رجل الدين المتفلسف الذي يرى ان العلمانية أصبحت في نسختها الأخيرة خطرا على المسيحية في الغرب، بعد ان كانت تسعى الى تنظيم العلاقة بين الدين والدولة، بيد انه يدرك الفسحة المتاحة له مجددا في هذين الرهانين اللذين ليسا في ذاتهما برهانين دينيين.