الحكومة تبدي استعدادها لترك شركات وول ستريت تواجه الفشل

TT

أوضحت كل من وزارة الخزانة الأميركية وهيئة الاحتياطي الفيدرالي أخيراً أنهما لن تتدخلا لإنقاذ كل شركة مالية كبرى داخل الولايات المتحدة. ولا شك أن هذا الموقف جاء بمثابة صدمة قاسية للكثير من الممولين. ومن خلال السماح لرابع أكبر مصرف استثماري على مستوى البلاد، «ليهمان برذرز»، بإشهار إفلاسه، والتلميح بقوة إلى استعدادهم لرؤية المزيد من عمليات الإفلاس، أثبت مشرعونا الماليون صلابتهم أمام المعنيين بوول ستريت. وبات التساؤل الذي يطرح نفسه الآن: ماذا بعد؟ بافتراض أن القطاع المالي استمر في الانهيار على مدار الشهرين المقبلين، فعند أي نقطة ينبغي على الحكومة التدخل إذا افترضنا أنها ستتدخل من الأساس؟ في واقع الأمر، سيكون من الخطأ إقدام الحكومة على تلك الخطوة قبل حدوث قدر أكبر بكثير من عمليات التجميع. الملاحظ أنه خلال فترة الازدهار الاقتصادي الكبرى على امتداد الأعوام العشرين السابقة، شهد قطاع الخدمات المالية حالة من التضخم الشديد. وفي ذروته، شكل القطاع ما يزيد على ثلث إجمالي أرباح الشركات داخل الولايات المتحدة، ناهيك من المبالغ الهائلة التي قدمتها شركة غولدمان ساشز (12.1 مليار دولار عام 2007) وغيرها من الشركات كمكافآت لموظفيها. بيد أنه الآن في أعقاب كارثة الرهن العقاري، تعاني المصارف الاستثمارية من تلاشي بعض مجالات النشاط التجاري المربحة بالنسبة لها. ومن الواضح أن الشركات لن تتمكن من جني الأرباح المترتبة على منتجات الرهن العقاري المركبة قريباً، وكذلك الحال مع الأرباح داخل العديد من المجالات الأخرى المعتمدة على الاقتراض الكبير.

وبدلاً من ذلك، أصبح «تقليص النفوذ» كلمة السر بمختلف أنحاء النظام المالي، وذلك في إطار سعي جميع الشركات والمصارف تقليص قروضها ونشاطاتها التجارية. لكن ليس هذا هو الأسلوب الذي ينبغي على الاقتصاد الرأسمالي العمل من خلاله .

إن السماح بانهيار مصرف مالي ضخم، مثلما فعلت هيئة الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة أخيرا، جاء كمخاطرة محسوبة في موقف صعب. والواضح أن الاوضاع القائمة حالياً خطيرة بالفعل، ذلك أنه في ضوء الترابط الداخلي البالغ داخل النظام المالي، ليس بوسعنا تحديد التداعيات المترتبة على الإخفاق غير المسبوق لمصرف استثماري كبير. وعلى الجانب الآخر، فإن دفع عشرات المليارات من أموال الضرائب، مثلما فعلت هيئة الاحتياطي الفيدرالي في مارس (آذار) الماضي عندما انهار مصرف استثماري آخر، وهو «بير سترنز»، ليس هو الحل المناسب أيضاً. ومع استمرار الضعف في سوق الإسكان واحتمالات أن تعاني الصادرات الأميركية مع تراجع عجلة الاقتصاد العالمي وتفاقم معدلات البطالة، بات من الواضح أن مجرد تقديم أموال لإنقاذ «ليهمان برذرز» لن يوقف تردي الأوضاع داخل النظام المالي.

وفي مارس (آذار) الماضي، قامت هيئة الاحتياطي الفيدرالي بشراء أصول تنطوي على مخاطرة تخص «بير سترنز» بقيمة 29 مليار دولار. ومن المحتمل أن يتطلب إنقاذ «ليهمان برذرز» مبلغا لا يقل ضخامة عن ذاك المبلغ. ولو كانت مثل هذه الخطوة باستطاعتها وضع نهاية للأزمة، ربما كانت ستصبح مبررة، لكن ذلك لا ينطبق على الكثير من الكيانات العملاقة المتداعية، ناهيك من تريليونات الدولارات التي تكبدتها وزارة الخزانة منذ عشرة أيام سابقة لإنقاذ شركتي الرهن العقاري العملاقتين، «فاني ماي» و«فريدي ماك». ومن المحتمل أن ينتهي الحال بمحاولات إنقاذ هاتين الشركتين فقط بتغريم دافعي الضرائب ما يتراوح بين 100 مليار دولار و200 مليار دولار، بافتراض تراجع أسعار الإسكان المعدلة حسب معدل التضخم بنسب تتراوح بين 10% و12% أخرى.

لكن هل سينجو دافعو الضرائب الآن من دون التعرض للمزيد من الأضرار؟ ربما لا. في الواقع، فإن الاحتمال الأكبر هو أن تستمر الضغوط لبعض الوقت، بحيث تتزايد الديون على كاهل الشركات، ويحدث الإضرار بالشركات الكبرى العاملة بمجال تصنيع السيارات. وعند نقطة ما، ستذعن الحكومة الفيدرالية مجدداً وربما ينتهي الحال بدافعي الضرائب بتكبد مائتي مليار دولار إضافية قبل انتهاء حالة الفوضى غير الاعتيادية الراهنة. بيد أنه من خلال وضع بعض العبء على عاتق حاملي الأسهم والسندات بالمؤسسات المالية الكبرى، يكون قد فرض المشرعون الماليون بذلك على الأقل بعض الانضباط داخل النظام. وأيضاً من خلال السماح للشركات التي أقدمت على خوض مخاطرات مبالغ فيها بالفشل، فسيقلص المشرعون من الضغوط السياسية الرامية لتشديد التنظيمات داخل النظام خلال الفترة اللاحقة للأزمة. ودعونا نأمل في أن يتحلوا بالصرامة لفترة أطول.

* أستاذ في علم الاقتصاد

بجامعة هارفارد الأميركية

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»