وصيته

TT

أكتشف من حكايات أصدقائي، ومن قراءة السير، أن معظمهم بدأ بقراءة الروايات البوليسية، ثم عندما أصبح أكثر نضوجاً انصرف عنها تماماً الى الرواية الأدبية. وقد كنت دون العاشرة عندما دفع إليّ أحد أعمامي، وهو رجل بسيط، بروايات أرسين لوبين، ظناً منه أنها أفضل الطرق لتوسيع المعارف. وبدا متحمساً لها ولكاتبها موريس لبلان. وكانت يومها تترجم على نطاق واسع جداً في بيروت وتصدر في سلسلة أسبوعية، لا يفوت عمي منها أي عدد.

لم يدم ذلك طويلاً، فقد اكتشفت بعد قليل الكتب الرومانسية والروايات التاريخية. ولم أعد الى الروايات البوليسية إلا لقراءة آغاثا كريستي التي قيل ان مفرداتها تثري جعبة الكلمات الانكليزية، ثم رحت أصادف، في الصحف والملاحق والمجلات الأدبية، ذكرا كثيراً للكاتب البلجيكي جورج سيمونون، وهو مكثار على نحو أسطوري، وامتدح أعمال سيمونون كبار أدباء فرنسا مثل أندريه جيد. لكن ذلك لم يحمسني الى قراءة الأدب البوليسي من جديد، ففي الآداب ما هو أكثر عمقاً. قرأت بعض أعمال سيمونون فقط عندما وقعت على توصية قديمة به في مذكرات جانيت فلانير عن باريس التي اعتبرته احد كبار أدباء الفرنسية. ومنذ ذلك الوقت وأنا أعود الى سيمونون بحثا عن سر الرجل. لكن يبدو أن من كان مثله لا يذاع له سر. فقد قيل في تولستوي انه أتى معجزة أدبية في «الحرب والسلم» لأنه ملأ روايته بـ 500 شخص. أما سيمونون فقد حملت رواياته 9000 شخصية ودارت في 1800 موقع. وكان لبطله، المفتش ميغريه، الدور الرئيسي في 103 روايات. وجمعت أعماله المنشورة تحت اسمه الحقيقي في 27 مجلدا، وبيع من كتبه 550 مليون نسخة في 55 لغة، وأنتجت السينما الفرنسية 50 فيلما مأخوذة من رواياته، وفي البداية كان يكمل رواية كل أسبوع، تركها الى جانب آلاف المقالات وألف ريبورتاج عن أسفاره حول العالم.

عاش معظم شبابه في يخت يتنقل به من بلد الى بلد، ويتزوج غالباً حيثما حل. ولم يستقر به المقام إلا في سنواته الأخيرة في مدينة لوزان السويسرية. غير أن العقد الأخير كان مأساوياً بعكس العقود السابقة، فقد انتحرت ابنته ماري جو، التي أوصت بأن يحرق جثمانها ويدفن رمادها في حديقة المنزل. وعندما توفي عن 86 عاماً نفذت وصيته بالحرف: أن يحرق جثمانه ويخلط رماده برماد ابنته، وان يدفن الرماد في كعب شجرة الأرز التي كان قد جاء بها من لبنان.