هل ثقلت النياق بأحمالها؟!

TT

أحرص بين الحين والآخر وكلما تسنى لي ذلك، أن آتي بنماذج وحوادث إنسانية واقعية بدون أي تحيز لأي عقيدة أو جنس أو بلاد، لأثبت أن العالم ممتلئ بالخير والتضحية مثلما هو أيضاً ممتلئ بالشر والأنانية. فهذه عائلة سويسرية «تبنت» قرية هندية بائسة وصنعت منها مجتمعاً مكتفياً.

ورغم أن تلك العائلة تحيا في رغد من العيش، ولديها ثلاثة أطفال أصحاء، إلا أنها قررت أن تقوم بذلك العمل الإنساني بعدما ذهب ربّ العائلة في رحلة عمل إلى الهند عام 1975، وشاهد البؤس المفجع في مدينة «كلكوتا»، ومثلما قرأت فقد شاهد الأطفال منطرحين على الحجارة ولا قوة لهم على الجلوس، وكان في إمكانه إحصاء كل ضلع في أجسامهم، وعرف من مرافقه أن بعض الآباء الذين يقنطون من إعاشة أطفالهم يتركونهم في الشوارع.

وعندما رجع «بوركي» إلى منزله في زيورخ وحكى لزوجته «ترودي» ما شاهده من مأساة قرر الاثنان بدون ما أحد «يرفع العصا على ظهريهما»، وبدون ما «أجر أو جائزة أو مديح»، يرجوانه من أحد، قررا وهما بكامل قواهما العقلية أن يتصلا بمؤسسة «أرض البشر»، وهي مؤسسة عالمية معروفة تُعنى بإغاثة الأطفال ومركزها الرئيسي في لوزان، وأبلغاها أنهما على استعداد لعمل شيء ما للأطفال المشردين في الهند، فقال لهما المسؤول: إن علينا التزامات كثيرة في جميع أنحاء العالم، ولكننا مستعدون على دعمكما إذا كنتما جادين فعلاً، وعندما ترون الأطفال يموتون في الشوارع فلا تقفوا حيالهم متفلسفين، اذهبوا إلى هناك وافعلوا شيئاً.

وذهب الأب بحصيلة ما في جيبه إلى الهند وبقيت الزوجة مع أطفالها، واتصل بالمسؤولين هناك وأرشدوه إلى قرية يقال لها «أوستي»، وهي في الدرك الأسفل من الفاقة، وتبعد عن كلكوتا 42 كيلومترا جنوبا، ويقطنها 12 ألف نسمة لا شيء فيها غير المرض والجوع والموت، وأول ما فعله أن حفر بئراً ارتوازياً لكي يشرب الأهالي مياهاً غير ملوثة، ثم استأجر بيتاً طينياً حوله إلى مدرسة أسماها «زهرة الصباح»، واستقطب بعض المدرسين الهنود لتعليم الأطفال الذين تقدم لهم يومياً ثلاث وجبات طعام، وصور «بوركي» كل ما شاهده وفعله كوثائق، وعاد إلى سويسرا، واستطاع أن يقنع الجمعيات الخيرية هناك بالتبرع، وبادرت مؤسسة «العدائين العالميين» بتنظيم سباق قرب زيورخ يعود ريعه إلى مشروع «اوستي»، وبدورها بادرت الخطوط السويسرية بنقل التبرعات العينية مجاناً إلى الهند.

واستطاع خلال عدة سنوات أن يحفر أكثر من ثلاثين بئراً، وأن ينشئ مزرعة دواجن كبرى حديثة، وحظائر أبقار تحلب آليا، وأنشأ مصنعا للغاز الحيوي من فضلات الحيوانات للوقود المركزي، ودار حضانة للأطفال تحوي المئات، ومستوصفا لمعالجة الجميع، وفرض على كل تلميذ سواء كان ولداً أو بنتاً على إتقان حرفة أو صنعة وهو أمر إجباري، وبرع المتخرجون بالخزف والخياطة والزراعة والنجارة والبناء، واليوم وبعد أكثر من ثلاثة عقود أصبحت «اوستي» من القرى النموذجية التي يُضرب بها المثل ويتهافت على استيطانها الكثيرون. وبعد أن اطمأن «بوركي» وزوجته «ترودي» إلى أن جهودهما قد آتت أكلها، وأن عوائد المؤسسة الخيرية تكفيها للتقدم للأمام آثرا التقاعد، وسلما إدارة الدفة «لمهاراني بيك» وهي فتاة من المنبوذين التحقت بالمدرسة وعمرها ستة أعوام، ولولا ذلك لأرسلها أهلها للعمل كخادمة بدون أجر، فأجرها هو ما تأكله، ولزوجوها في الثالثة عشرة من عمرها، وأصبحت أماً في الخامسة عشرة، وعجوزاً هزيلة في الثلاثين، وها هي الآن تحمل شهادة الماجستير في علم النفس.

ويقول «بوركي»: نحن نعلم أنه ما زالت هناك قرى محرومة، ولكننا رأينا في الهند ما يكفي لنؤمن بأن الناس يستطيعون تحريك الجبال إذا هم أرادوا.

أين لنا في بلادنا العربية مثل «بوركي وترودي»، ليكون «سمننا في دقيقنا»، أم أن النياق قد ثقلت بأحمالها؟!.

[email protected]