(إطار منهجي) أرحب لمناقشة قضايانا.. الفضائيات مثلا

TT

عوامل عديدة ـ متنوعة المدخل والشكل ولكنها متحدة المضمون ـ دفعت قضية فضائيات عربية إلى السطح العام: اهتماما ومتابعة وتقويما.. ومن هذه العوامل: ما يتردد في أوساط مختلفة من أن هناك فضائيات عربية (لاحظ حذف «أل» الشمولية) زادت ـ في رمضان ـ جرعات (مضادات الاستقامة) في مسلسلاتها وبرامجها وكأنها رأت خللا مروعا في التوازن الاجتماعي، بمعنى ان معدلات الطهر والاستقامة والروحانية قد صعدت نسبتها في رمضان، وان إعادة التوازن تقتضي رفع معدلات الإباحية والفساد!!، بذات القدر، ولكن في اتجاه مضاد، وهي ظاهرة ـ بافتراض وجود هذه الإرادة المبيّتة وراءها ـ قد أثارت سخطا عميقا، وتذمرا شديدا على مستويات مختلفة ليس من بينها الغلاة المتنطعون الذين يرفضون الإعلام بوجه عام ويعادونه.. ومن الناحية العامة، فإن تذمر قطاعات واسعة من هذه الظاهرة لا يغرب عن وعي متابع ذي فطنة.

والحق: ان القضية كبيرة: أكبر من أن تحصر في ردود فعل معينة ـ دينية أو اجتماعية أو أخلاقية ـ.. والقضية أكبر ـ كذلك ـ من أن تُطرق طرقا عارضا ثم تُنسى أو يُعتّم عليها. ولذلك يتعين أمران: الجهر بما يراه المرء صوابا: جهرا يتحرى الحق والمصلحة وحدهما، أي دون مداهنة لأحد من هذا الفريق أو ذاك.. والأمر الثاني هو استدامة طرح هذه القضية بحسبانها: قضية اجتماعية تربوية أخلاقية إعلامية حضارية ستكتنف حياة الناس في الغد، كما اكتنفت حياتهم بالأمس واليوم، فإن أسوأ ما يفسد القضايا ـ من هذا النوع ـ طرقها أفقيا سطحيا على نحو لا يفيد علما، ولا يثمر عملا، ولا يستنبط معيارا، ولا ينتج سلوكا.

واللازمة المنهجية الأولى ـ ها هنا ـ هي (وضع إطار منهجي كلي للقضية)، بمعنى أن تعالج في اطار نفسي تربوي أخلاقي اجتماعي حضاري، وأن تشمل جهود العلاج والتأصيل والإصلاح المحاور الأربعة الأساسية:

أولا: المحور الأول هو (الحرية الإعلامية). وهذا المحور ينبغي أن يظفر بأولوية متقدمة ومبكرة بوجه خاص.. لماذا؟.. لأننا أمة لبثت أحقابا وهي مكبّلة الضمير والروح والعقل بأغلال الكتب والاستبداد.. ولذا فهذه الأمة متعطشة إلى أنهار من الحرية العذبة الرائقة التي تشفيها من سقام الخوف والكبت والاستبداد.. والحرية الإعلامية في طليعة الحريات المبتغاة.. فإعلام بلا حرية إنما هو إعلام همس أو هذيان في سجن، بل هو إعلام لا وجود له في حقيقة الأمر. ذلك أن الإعلام الجيد يستمد وجوده من الحرية الواسعة.. وفي وقت مبكر من التاريخ البشري، كان المطلب الأول للأنبياء هو: أن يمارسوا (الاتصال الشخصي) مع الناس (والاتصال الشخصي من فنون الاتصال بالمفهوم الحديث)، وكان أعداء الحرية من الكهنة والطغاة يرفضون ذلك لأنهم يخافون من الحرية.. وفي عصرنا هذا اتسعت حرية الإعلام نظرا لتعدد الأشكال الإعلامية من جهة، ولأن هذه الحرية تعززت بـ (تقنيات) رائعة استندت إلى سنن كونية من جهة أخرى. و(نقل الصور والكلمات) عبر الأقاليم والقارات هو مدى مكاني هائل لانتشار الحرية، وهذا النقل يجري من خلال الفضاء الذي أودع الله فيه خاصية نقل الصور والكلمات في نطاق ما سخره سبحانه للإنسان من قوى وطاقات وقوانين في هذا الكون الفسيح.. والمعنى المستنبط: أن الحرية تعززت وترسخت بفنون تقنية معتمدة على سنن كونية راسخة.

فحيّ على هذه الحرية الإعلامية الحبيبة الجميلة.

ثانيا: محور المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية، وهو محور متكامل مع المحور السابق، فالإعلام الذي يتمتع بالحرية، ويحيا بها، يتحمل ـ في ذات اللحظة ـ مسؤولية اجتماعية وأخلاقية تتكافأ مع مساحة الحرية التي يتحرك فيها، فإذا كانت الحرية (حقا) يُتمتع به، فإن المسؤولية (واجب) ينبغي أن يؤدى. والقاعدة القانونية تقول «كل حق يقابله واجب».. وبعد تطبيقات كثيرة خاطئة لنظرية (الحرية الإعلامية) ـ في أمريكا مثلا ـ، تواطأ الأمريكان ـ بمقتضى العقل والعدل ـ على نظرية جديدة هي نظرية (المسؤولية الاجتماعية) في حقل الإعلام.. وخلاصتها: اكتب، وانشر، وبث: بشرط المحافظة على قيم المجتمع ومصلحته وأمنه.. وهي نظرية أقرب ما تكون إلى مفاهيم الإسلام في الجمع بين الحرية والمسؤولية دون تناقض ولا افتئات من إحداهما على الأخرى: طبعا مع الاحتفاظ بالفروق الفلسفية بيننا وبين الأمريكان في مفهوم الحرية نفسه، وهي فروق عميقة وواسعة.

ثالثا: المحور الثالث هو: تقويم موقف فضائيات عربية (والتنكير هنا مقصود به اجتناب التعميم الجاهل الظالم): تقويمها بمقياس الحرية والمسؤولية. لقد أخذت هذه الفضائيات حريتها في البث الموجه الى الجمهور، ولكنها لم تتحمل (مسؤوليتها الاجتماعية والأخلاقية) تجاه هذا الجمهور.. ولعل الترتيب الفني يقضي بالنظر إلى هذا المحور من زوايا أربع:

1 ـ الزاوية القانونية. فقد تسمح قوانين البلاد التي تبث منها هذه الفضائيات بمدى واسع من حرية البث، بيد أن أصحاب الفضائيات يجب أن يتحملوا مسؤوليتهم الاجتماعية والأخلاقية تجاه المجتمعات التي يصل إليها بثهم، بمعنى ألا يستغلوا ساحة الحرية الواسعة في بث الفساد والانحلال والاباحية، لأن المقياس هنا ليس هو الحرية المتاحة في مقر البث وانما المقياس هو احترام معايير المشاهدين وقيمهم وحرماتهم والمستوى الاخلاقي الذي يحرصون عليه: لأنفسهم وأهليهم وأولادهم.

2 ـ زاوية (الأثر السيئ) للإعلام السيئ.. هناك مئات الدراسات العلمية المتخصصة (النفسية والتربوية والاجتماعية والاعلامية) أثبتت ان للاعلام السيئ المتفلت أثرا تدميريا في تفشي الجريمة.. ونشر الاباحية.. وتفكيك الاسرة.. وفي تدني قدرة الأطفال واليافعين والشباب في حقل التحصيل المعرفي.. وفي صناعة رأي عام يقترب من حالة البلاهة في تلقي الاعلان والآراء السياسية والشحن الايدلوجي والجنوح الى التفاهة في التفكير والاهتمام.

3 ـ زاوية (تصور الدور الوهمي أو المصطنع) لهذه الفضائيات.. فمن القائمين على الفضائيات (المحرومين من أدوار سياسية لأسباب شتى) مَن قد يتصور أن دوره البديل هو (القيام بانقلاب مدني اعلامي في المفاهيم والافكار والسلوكيات) يسلخ المجتمعات العربية الإسلامية من قيمها وأخلاقها لكي تحاكي نماذج حضارية أخرى لا تفتأ تفرض نفسها بالقوة، وتدعو الى تقليدها بالفكرة والبرنامج والمسلسل والفيلم وفرق القائمين بالاتصال في هذا الميدان.. وهذا ليس من حقهم ـ قط ـ لأن الشعوب الموجه اليها بثهم لم تفوضهم في استدراجها الى نماذج حضارية غريبة العقيدة والوجه والمعيار والغاية عنها. وبانتفاء التفويض ينفتح الباب لهذا السؤال: هل هي (ديكتاتورية فرض الفساد) على الناس: بوسائط اعلامية؟!

4 ـ الزاوية (الأمنية السياسية).. هناك تحليلات لموجات الفساد المتتابعة تقول: إن وراء هذه الموجات فكرة معينة وهي: ان العلاج الناجع لموجات التطرف والعنف هو اطلاق موجات مضادة من الاباحية والانحلال والفساد تصرف الشباب عن مستنقعات التطرف!.. وفيما نعلم ليس هناك أي سياسة رسمية من هذا النوع، والسبب بدهي وهو: ان الفكرة غبية موغلة في الغباوة، فثمة فكرة ـ أقل منها غباوة ـ جلبت الدواهي على اصحابها، فهناك عوائل عربية اسلامية نهت ابناءها ـ تحت ضغط الخوف ـ عن (التدين) وذلك في اعقاب احداث 11 سبتمبر، وكانت النتيجة: ان انصرف هؤلاء المنهيون عن الصلاة الى المسكرات والمخدرات والضياع المتعدد الصور.. ثم ان كثرة الفساد منحت الارهابيين مزيدا من الاسلحة الجديدة في تكفير المجتمعات والحكومات او تفسيقها، وفي تنشيط حركة تجنيد الشباب في أقبيتهم المظلمة، وشعارهم المضاد: لقد تكاثر الفساد فلنصعِّد موجة التمسك المتشدد أو ما يسميه خصومنا بـ (الغلو)!

رابعا: المحور الرابع هو (حق الناس في الترفيه). فالحياة ليست كلها (ديناً)، بل هي دين و(دنيا) أيضا. والترفيه من متع الدنيا ومباهجها بلا ريب. ولذا فليس من الدين ولا الفطرة ولا العقل ولا الواقع: الاستهانة بهذا الحق الانساني، ولا التعجل في مصادرته بحجة «!!» دينية او اخلاقية. فالاخطاء ليست مسوغا لمصادرة ما هو حق ومباح.. ان النهي عن الترويح او تضييق منافذه يوقع الناس في أحد حرجين: حرج الاستجابة لنوازعهم الفطرية وتلبيتها بعيدا عن هدى الاسلام وبذلك يفتح اوسع الابواب لمناكر اضخم، أو حرج (كبت) النوازع الفطرية. وهذا اتجاه يصادر الفطرة ويتجاهل الواقع. ومن هنا ندعو بوضوح الى (الاجتهاد) في التوسعة على الناس في الترويح (النظيف): كبديل للترويح (الملوث)، أي الأمر بـ (المعروف)، (قبل) النهي عن المنكر. يقول ابن تيمية: «النفوس لا تترك شيئا إلا بشيء، لأن الترك ليس مقصودا لذاته». والمعنى: قبل أن تنهى الناس عما هم عليه من عادات ـ مثلا ـ قدم لهم البديل الافضل حتى لا تفتنهم او تتركهم في فراغ.. نعم. قضية الترفيه تتطلب اجتهادا فكريا فقهيا سمحا مرنا يبشر الناس بما يلي: افرحوا وامرحوا وابتهجوا واضحكوا وروّحوا عن انفسكم. فهذا سلوك فطركم الله عليه وجاء الاسلام فأقره لأنه دين الفطرة، ومساحة الترويح امامكم واسعة، لا يحدها الا:

أ ـ الالتزام بالقيم الاخلاقية: الفردية والاجتماعية في حدها الادنى ـ على الأقل ـ.

ب ـ الوعي بمضار فلسفة تدعي ان (الفساد جزء من الفن)، وان البذاءة والالفاظ الساقطة من مقومات النكتة الكوميدية. فهذا زعم مثيل لمن يدعي ان الرائحة الكريهة في الفم شرط في انفتاح الشفتين.