سبتمبر «أيلول» الأسود

TT

الصحف تقارن أحداث اليوم بانهيار وول ستريت عام 1929 وما تبعه من كساد عالمي واكبه صعود النازية والفاشية اللتين أشعلتا الحرب العالمية الثانية.

فقد الآلاف وظائفهم تحت أنقاض «ليمان بروذرز» رابع اكبر بنوك امريكا، بين عشية الاحد وضحى الاثنين، يومان فقط بعد انتعاش اسواق المال بدعم البنك الفيدرالي مؤسستي «فريدي ماك» و «فاني ماي» للائتمان العقاري، اي «تأميمهما» عمليا (وإن غاب اللفظ الذي حرمه كهنوت الرأسمالية).

صادف الاثنين الماضي (15 سبتمبر) «الاثنين الاسود»،15 سبتمبر 1987 عندما تدهورت بورصات العالم لتفقد الاسهم نصف قيمتها في اسبوعين.

شهد سبتمبر 1992 الاربعاء الاسود (16 سبتمبر) انهيار قيمة الاسترليني وفقدان بنك انجلترا (البنك المركزي المعروف بـ«السيدة العجوز ساكنة شارع المال») 16 مليار جنيه من الغطاء الذهبي في محاولة يائسة لإنقاذ الاسترليني، وتغير سعر الفائدة ثلاث مرات في يوم واحد، بتعليمات وزير المالية نورمان لامونت عنما كانت السيدة العجوز ما تزال خاضعة لوزارته.

فشلُ محاولات لامونت أثبت ان تحركات سوق المال العالمي اكبر من نفوذ أي دولة، وخرجت بريطانيا من النظام النقدي الاوروبي الموحد.

يرى البعض ان السوق يهبط اليوم في منحنى تصحيح وسيستوي مساره عاجلا او آجلا؛ ويرى البعض الآخر أنه نزيف اصابة النظام المالي المألوف في مقتل.

تشابه أربعاء الإنعاش 17 سبتمبر بتدخل البنك الفيدرالي بقرض 80 مليار دولار لمؤسسة «اي أيه جي» للتأمينات الضامنة لمعظم بنوك العالم، مقابل 80% من اسهمها، أي تأميم فعلي، والاربعاء الاسود 1992، يطرح السؤال الشائك:

ـ هل تتدخل الدولة لإنقاذ المؤسسات المالية الكبرى لتضمن حدا ادنى من السيولة النقدية حتى لا يحرق الجفاف النقدي شجرة الرأسمالية العالمية بعد تساقط معظم اوراقها؟

أم تترك الدولة السوق وشأنه تطبيقا لنظرية داروين للنشوء والارتقاء بانتخاب الطبيعة للاجناس القادرة على التطور لتلائم المتغيرات البيئية (اي المالية) ويندثر غير القادر على المقاومة ؟

العاصفة التي تمر بالسوق المالي العالمي هي الاسوأ منذ كساد الثلاثينات وحساب أرقام معادلة حالة واحدة لفقدان 10 آلاف من ذوي الدخول المرتفعة (اكثر من مليون جنيه سنويا) أعمالهم مثل تساقط أحجار الدومينو يؤدي لنتيجة مرعبة.

فبدوره يؤدي لفقدان 100 الف وظيفة مرتبطة في الطبقات المتوسطة تشرد البنوك نصفهم بمصادرة مساكنهم (90% من هذه الفئة يشترون منازلهم بقروض تمتد اقساطها لربع قرن). بدوره يؤدي لبطالة ضعفهم في الصناعات المكملة لسوق العقار؛ فتضطر الدولة لإسكانهم ورعاية اسرهم (اي حوالي 600 الف شخص) بتكلفة تقدر بـ 60 مليون جنيه سنويا، بينما تفقد الخزانة قرابة 35 مليون جنيه تحصيل ضرائب دخول (330 الفا) فقدوا اعمالهم في المعادلة نفسها.

المفارقة ازدواجية المعايير في جدل النقضيين في المجتمع الديمقراطي: الاشتراكيون اصحاب نبوءة انهيار النظام الرأسمالي تحت وطأة تناقضاته، والرأسماليون انصار حرية السوق.

ابتسامات اليسار، لحظة تلقي «المستر رأسمال» ضربة موجعة، استبدلت بـ«تكشيرات» قلقة السؤال : هل يتحمسون لفكرة تدخل البنوك المركزية لتصحيح مسار السوق أي التأميم الذي نادوا به منذ نعومة نظرياتهم؟

التدخل، كما فعل البنك الفيدرالي الامريكي هو نقل الدم من الفقراء (اموال الضرائب) لـ«المستر رأسمال» الذي ينزف بشدة، وبالتالي انقاذ عدوهم اللدود.

السؤال نفسه يواجه المحافظين الذين يرون في تدخل الدولة تناقضا لحرية السوق. لكن إفلاس المؤسسات المالية سيتحمله دافعو الضرائب بمواجهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن البطالة.

سماسرة البورصات والمصرفيون قاوموا فكرة إصدار وزارات المالية لوائح تنظيمية اثناء ربع قرن من انتعاش السوق ودس الملايين في جيوبهم بممارسات بعضها «لا أخلاقي»، كالمقامرة بمدخرات واستثمارات البسطاء؛ فلماذا يطلبون مساعدة البنوك المركزية الآن؟

فكرة ترك الدولة المؤسسات المالية الكبرى، التي تمر أموال العالم عبر أرصدتها، لرياح الانتخاب الطبيعي الدارويني، تعني اندثار قسم لا يستهان به من ديناصورات سوق المال.

تعقيدات الزمن المعاصر تعني الاعتماد المتبادل بين الديناصورات المالية والانسان المدخر ـ المستهلك ـ المقترض ـ المستثمر.

فمن يسقط من الانتخاب الدارويني اليوم في وول ستريت، او السيتي أوف لندن، يهدد بانقراضه اسواق العقار والاستهلاك والانتاج التي تعتمد على الاقتراض من بحيرة مال عالمية ينكمش حجمها بارتفاع سعر الفائدة، او تجف تماما بتوقف السيولة النقدية عن التدفق اليها.

أجد نفسي ـ كغيرى من الموظفين ذاتيا Self employed من الطبقة المتوسطة التي تشكل ثلث القوى المنتجة البريطانية التي تساهم باكثر من نصف الناتج القومي للبلاد ـ في مأزق شلل مالي لا يحركه جدل الرأسماليين مع اليساريين .

الموظفون ذاتيا لا يتلقون مرتبات متعاقدا عليها وانما «على باب الله»، لا إجازات سنوية كموظفي المؤسسات. ايام المرض خسارة مزدوجة، بفقدان دخل هذه الايام، ودفع فاتورة العلاج التي تصل آلاف الجنيهات؛ فانتظار اشهر في مستشفيات وزارة الصحة ليس خيارا متاحا للموظف ذاتيا او لرجل الاعمال.

الأخطر ان الموظف ذاتيا ليس له اي معاش عند بلوغه سن التقاعد، او اضطراره للتقاعد لاسباب صحية او لحادث. اكتشفت يوم الاثنين الاسود قبل عقدين ذهاب مدخرات دفعتها شهريا لـ 15 عاما أدراج الرياح وقيمة المعاش 18% فقط مما قدره المستشار المالي الذي نظمه (حصل هو عمولته كاملة منذ البداية).

نصيحة مستشارة مالية أخرى يومها (لقاء عمولة معتبرة طبعا) لمئات من أمثالي، الحصول على قرض تساوي خدمة أقساطه ما كنا ندفعه للمعاش، الذي ابتلعته عاصفة الاثنين الاسود، ليكون مقدم عقارات بقية اثمانها قروض من الائتمان العقاري على 20 عاما، كمعاش للتقاعد وتأمين للأولاد في حالة الموت المفاجئ.

نهاية القروض تحل هذا العام. وخطة بيع عقارين واستخدام «الفائض» من تسديد قرضيهما، بعد استقطاع مصلحة الضرائب ما تسميه «ضريبة نمو رأس المال» اي 25% من الفارق بين ثمن البيع وثمن الشراء ـ الى جانب مصاريف المحامي والمحاسب وعمولة السمسار والتمغة ـ لدفع مديونية عقارين آخرين، أحدهما المسكن، والثاني يؤجر كمعاش للتقاعد، غير قابلة للتنفيذ لانخفاض أثمان العقارات.

وبدلا من الرسو في مرفأ آمن، دفعت الرياح سفينة الاستثمار المتواضع نحو جزيرة حادة الصخور لا وجود لها على خرائط المستشارين الماليين الذين يلجأ مستثمر المعاش الذاتي مثلي الى بللورتهم السحرية بحثا عن قوارب نجاة للعائلة قبل الارتطام بالصخور.

وكأحد المحافظين الداعين لحرية السوق اصرخ اليوم داعيا البنوك المركزية لإلقاء قشة نتعلق بها وسط امواج زوبعة لا يعرف احد اتجاه رياحها بينما تتعلق عيوننا بغيوم سنوات التقاعد.