خلافات تكبر وتتسع وتهدد مستقبل السلطة الفلسطينية

TT

يبدو أن الخلاف الشائع بين حركتي فتح وحماس، لم يعد هو الخلاف الأساسي البارز في الساحة. تبرز إلى المقدمة الآن خلافات حركة فتح، وهي خلافات تدور أساسا حول مؤتمر الحركة السادس الذي تقرر عقده قبل نهاية هذا العام، ثم تتسع وتتطور لتصبح خلافا حول انتخابات الرئاسة الفلسطينية، وحول حكومة سلام فياض، وحول دور منظمة التحرير الفلسطينية.

حسين الشيخ القيادي في حركة فتح الآن، يمثل طرفا في هذه الصراعات، وهو من المتحمسين لعقد مؤتمر فتح داخل الأراضي المحتلة، ومن المتحمسين أيضا لعضوية موسعة للمؤتمر تصل إلى خمسة آلاف عضو، ويكون معظمهم من أعضاء الداخل.. وهو يصرح ويقول «إن البعض يدعو إلى تقليص العضوية، هؤلاء يريدون مؤتمرا على مقاسهم، بعدد قليل قابل للسيطرة». في إشارة هجومية على قيادة فتح المركزية التي تقترح أن تقتصر عضوية المؤتمر على 1500 عضو فقط. وهو يصرح أيضا ويقول «إن البعض لا يريد عقد المؤتمر على أرض الوطن، رافعا شعارات أكل الدهر عليها وشرب، من نوع: تحت حراب الاحتلال». وتقف في خلفية هذا الموقف لدى الداعين إلى عقد المؤتمر في الخارج، مخاوف من أن تتحول حركة فتح من حركة شاملة لكل اعضائها، إلى حركة يمثلها ويقودها أعضاء الحركة في الضفة الغربية وقطاع غزة.

ولكن هذه الدعوة الجامحة، ما تلبث أن تواجه بموقف قيادي مضاد، فها هو حكم بلعاوي يصرح باسم اللجنة المركزية، رافضا تصريحات حسين الشيخ ومن يمثل، فيقول «إن جميع الأنباء حول مكان وزمان انعقاد المؤتمر غير صحيحة، واللجنة المركزية وحدها هي المخولة بذلك، وهي ستجتمع بكامل أعضائها في وقت قريب (في عمان) للبت في المسائل كلها».

ولكن قياديا آخر من حركة فتح، يدخل على خط الجدل والتجاذب والنقاش، ويطرح مسائل أكثر أهمية وخطورة، مسائل تتجاوز حركة فتح إلى الوضع الفلسطيني برمته، إنه أحمد قريع (أبو علاء) مسؤول التعبئة والتنظيم في الضفة الغربية، ومسؤول لجان التفاوض مع تسيبي ليفني وزيرة خارجية إسرائيل. أحمد قريع عقد لقاء قبل أيام مع الأعضاء المنتخبين لمؤتمر فتح المنشود، وقال فيه أمورا خطيرة للغاية.

شن أحمد قريع هجوما باتجاه سلام فياض رئيس حكومة تسيير الأعمال، واتهمه بأنه «يحاول أن يشتري فتح بالمال». وكشف النقاب عن أن فياض اجتمع عدة مرات بأعضاء أقاليم الحركة المنتخبين، الذين طلبوا منه مساعدات مالية، واستجاب لهم. وقال: إن فياض يحاول أن يكون مرجعية لهذه الأقاليم، ويقدم لهم المال. وانتهى الأمر إلى حد القول بأن قريع وحركة فتح قررا الضغط بشكل جدي لإحداث تغيير وزاري، وهنا لم يقتصر الأمر على انتقاد سلام فياض بل شمل الرئاسة الفلسطينية أيضا من خلال القول بأن «فتح مستاءة من عدم استجابة الرئيس أبو مازن لمطالب فتح بإحداث تغيير في الحكومة. الرئيس لا يستجيب».

ووسع أحمد قريع نطاق هجومه السياسي، وشمل منظمة التحرير الفلسطينية، مقتربا من مواقف المعارضين الكثر الداعين إلى ضرورة إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، فقال «إن منظمة التحرير الفلسطينية تتعرض لمؤامرات أساسها خطف كلي لهذه المؤسسة الوطنية الجامعة». وطالب قريع مسؤولي حركة فتح بالعمل على حماية المنظمة والدفع نحو تجديد هياكلها ومؤسساتها»، تماما كما يطالب المعارضون.

وهنا يبرز سؤال: لماذا يشن أحمد قريع مثل هذا الهجوم الجديد من نوعه؟ وهناك من يجيب على هذا السؤال بالقول إن هدف الهجوم هو معركة انتخابات الرئاسة الفلسطينية المقبلة. وقبل أيام قالت مصادر فتحاوية لجريدة «الشرق الأوسط»، إن قريع يفكر أحيانا بالرئاسة. ثم تحفظت المصادر وقالت: إنه لا يفكر الآن بالرئاسة .. ولكن إذا جاءته لن يقول لا. وهناك في هذا الإطار، من يتهم قريع بالتشدد في المفاوضات مع إسرائيل، في إطار خطته لخلافة الرئيس محمود عباس إذ قرر أن لا يرشح نفسه مجددا. ويشيرون هنا إلى ما قاله إيهود اولمرت رئيس وزراء إسرائيل لميخائيل موراتينوس وزير خارجية إسبانيا عن قلقه من محاولات بعض قادة السلطة الفلسطينية الضغط على عباس لرفض التوقيع على اتفاق مبادئ. ونقلت عن اولمرت أيضا قوله «هناك جهات فلسطينية عشقت التفاوض، ولا تستهويها لحظة التوصل إلى اتفاق». وهنا قالت صحيفة هآرتس معلقة «إن اولمرت كان يغمز من قناة قريع». ويجري هذا الخلاف الهامس حول مستقبل الرئاسة الفلسطينية، بينما لايزال الأخذ والرد قائما حول الوضع القانوني للرئاسة الفلسطينية، وهل تنهي سنواتها الأربع في مطلع العام المقبل، أم أن التمديد ممكن لسنة أخرى، بحيث تجري الانتخابات الرئاسية والتشريعية في وقت واحد؟ كذلك هناك أخذ ورد قائم حول مرشحين آخرين، منهم مروان البرغوثي الأسير، والذي يطالب عباس بالإفراج عنه، لترشيحه بدلا منه، أو للاستقواء به وبسمعته ليكون بجانبه إذا قرر التجديد لنفسه. وها هو الهمس يدور حول احتمال وجود مرشح ثالث من حركة فتح للرئاسة هو أحمد قريع نفسه. وهكذا يبدأ نقاش تنظيمي طبيعي حول مؤتمر حركة فتح، ولكن النقاش يكبر ويتطور داخل حركة فتح نفسها، ليشمل الحكومة، ومنظمة التحرير، والرئاسة الفلسطينية. ولا يدور هذا النقاش بين المؤيدين والمعارضين، بل هو يدور بين أقطاب السلطة الفلسطينية أنفسهم.

وثمة بُعد آخر لمشكلات السلطة الفلسطينية يتمثل بالوضع الاقتصادي. فقد راهنت السلطة منذ أحداث غزة، أنها ستنشئ في الضفة الغربية وضعا اقتصاديا ومعيشيا ناميا ومتطورا، يقف في وجه وضع اقتصادي ومعيشي بائس في غزة. إلا أن الواقع العملي يثبت أن الوضع في الضفة الغربية يسير على منوال مشابه لمنوال غزة، بالرغم من أموال الدول المانحة، والتي أصبح دورها يقتصر على تمويل دفع الرواتب. وأمامنا حاليا تقريران صادران عن الأمم المتحدة. أولهما تقرير «مؤتمر التجارة والتنمية» (اونكتاد) الذي يقول: إن الاقتصاد الفلسطيني الذي خسر ما يصل إلى خمسة في المائة من ناتجه المحلي في عام 2006، عجز عن تحقيق أي قدر من النمو في عام 2007، وكان مهددا بالانكماش للعام التالي على التوالي، لولا استئناف المانحين تقديم المساعدات. وصدر تقرير ثان مماثل عن البنك الدولي الذي قال: إن انهيار الاقتصاد الفلسطيني سيجعله أكثر تبعية للمساعدة الدولية. وقال التقرير: هناك إجماع حول الشلل الذي تتسبب فيه القيود الإسرائيلية المفروضة حاليا على الاقتصاد الفلسطيني، والتي تتمثل بالحواجز العسكرية والمضايقات الإدارية، والتي من دون تخفيفها ستبقى المساعدات الدولية وإصلاحات السلطة عقيمة النتائج. وهذا الوصف كله مخصص للضفة الغربية، بعيدا عن أحداث غزة ومأساتها.

وإذا جمعنا هذا التوصيف الدولي لوضع اقتصاد السلطة الفلسطينية، إلى النقاش الجديد من نوعه حول وضع المؤسسات ومستقبلها، إلى النقاش الذي دار ولايزال يدور حول فشل التوجه نحو شعار الدولتين، والتخلي عنه لصالح شعار (دولة واحدة لشعبين)، نجد أنفسنا أمام صورة جديدة للوضع الفلسطيني الداخلي، يمتد فيها الخلاف ويتسع، منبئا بحالة انهيار قادمة، ينفتح فيها المستقبل على المجهول.. إلا إذا حصلت صحوة مفاجئة، يتداعى فيها الجميع نحو بحث المشكلة الأصل، مشكلة المشروع الوطني الفلسطيني نفسه، وهو يعاني حشرجات الموت في مفاوضات لا نهاية لها، ولا تستطيع أن تمده بالاوكسجين المطلوب.