بمناسبة اليوم الوطني السعودي.. مقالات محمد أسد المبكرة في الصحافة الأوروبية

TT

كم يسعد الباحث عندما يعثر على معلومات إضافية، تعزز كتابات سابقة له، أو عندما يكتشف وثائق تثري ما كتب وتضيف إليه.

وكنت في عام 2001 ألقيت بحثاً في جائزة المدينة المنورة، نشرته في جريدة «الحياة» (2001/5/26) عن المهنة الأولى (الصحافة) للمستشرق النمساوي الأصل، اليهودي العائلة، ليوبولد فايس، الذي فتح الله قلبه للإسلام، وهو في السادسة والعشرين من عمره (1926) واختار اسم محمد أسد علماً له، وقد ضممت هذا البحث إلى موضوعات كتابي: صفحات وثائقية من تاريخ الإعلام في الجزيرة العربية (2002).

بقيت منذ ذلك العام على صلة مع تراث محمد أسد (المتوفى في الأندلس 1992). وشاركت في الفيلم التوثيقي الذي أنتجه عنه هذا العام (2008)، المخرج النمساوي (جورج مسش)، بالتزامن مع قيام بلدية فيينا قبل أشهر بتسمية أحد ميادين العاصمة النمساوية باسمه الإسلامي تخليداً لمكانته، رحمه الله. وفي الشهر الماضي، تلقيت نموذج مقالات، كان محمد أسد يحررها في العشرينات من القرن الماضي في الصحف الألمانية والسويسرية، وذلك أثناء احترافه للعمل الصحفي، بعثها إلي الدكتور جونتر أوندهاجر الأستاذ في قسم الانثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية في جامعة فيينا، وهو الذي كان قد كتب أطروحته للدكتوراه عام 2002 عن محمد أسد، ثم أصدرها في كتاب بالألمانية (230 صفحة).

وكان المستشرق الألماني المسلم الدكتور مراد هوفمان قد نشر عرضاً باللغة الإنجليزية لهذا الكتاب في المجلة الأمريكية للعلوم الاجتماعية الإسلامية في عددها الصادر في صيف عام 2002، كما نشره في الوقت نفسه، في المجلة التي تعرض كتب العالم الإسلامي، وهو عرض موضوعي شامل أتمنى أن ينشره كاتبه بالعربية. ولا يكمن مصدر سعادتي بالحصول على تلك النماذج من المقالات القديمة لكونها مترجمة إلى الإنجليزية فحسب، ولكن لأن من كتب عن محمد أسد ـ باستثناء الدكتور أوندهاجر ـ كان دائماً ما يشير إلى مقالاته المبكرة التي كان يكتبها قبل إسلامه، عن رحلاته الاستكشافية الرائدة في منطقة الشرق الأدنى، ثم عن اتخاذه ـ بعد إسلامه ـ من المدينة المنورة مقراً لإقامته عدة سنوات. ويعد الدكتور هوفمان، والدكتور أوندهاجر والمخرج النمساوي جورج مسش من أكثر من يتتبع تراث الراحل محمد أسد في ألمانيا والنمسا في الوقت الحالي.

لقد احترف محمد أسد الصحافة في مقتبل حياته، ثم انصرف بعد إسلامه إلى التفكير في دينه الجديد، والتفكر في حال أهله، فألف أربعة كتب تعد من أروع ما كتب في منهاج الحكم ونظام الدولة الإسلامية. وكان في مقدمتها كتابه «الطريق إلى مكة»، كما عكف على ترجمة معاني القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وخلال إقامته بضع سنوات في المدينة المنورة ضيفاً على الملك عبد العزيز، نأى بنفسه إلى حد كبير عن السياسة، وتزوج من سعودية أنجبت ابنه الوحيد (د. طلال) المقيم حالياً في أمريكا، وقارب طلال الثمانين من عمره.

بين أيدينا ثلاثة نماذج من كتاباته، حرر الأول والثاني منها تحت اسمه الأصلي (ليوبولد فايس) بينما حرر الثالث بتوقيع (محمد ليوبولدفايس).

كان الأول بعنوان: «صديقي ابن سعود» ونشره في عدد أغسطس (آب) 1929 من المجلة الشهرية «أتلانتيك» (The Atlantic Monthly) وظهر في ست صفحات ونصف.يتحدث محمد أسد في مطلع المقال عن أنه ينظر إلى الملك عبد العزيز (ابن سعود) نظرة الصديق، بسبب ما يلحظه من اللطف في التعامل ومكارم السجايا مع المجتمع. وكان محمد أسد قد أكمل عامين من الإقامة في الأراضي السعودية التي لم تكن بعد حملت اسم المملكة العربية السعودية. وكان الملك عبد العزيز قد أكمل الخمسين من العمر.

كانت نجد ـ التي تشكل وسط الجزيرة العربية ـ تخضع في مطلع القرن العشرين لحكم أمير حائل (ابن رشيد)، في حين كان عبد العزيز آل سعود يقضي مع والده الإمام عبد الرحمن لجوءاً اختيارياً في الكويت بعد أن اندثرت الدولة السعودية ـ منذ قيامها قبل قرنين ـ للمرة الثانية.

هنا يحكي المقال ـ بأسلوب شائق ومفصل ـ قصة انبعاث الدولة السعودية في عهدها الثالث، وكيف اتخذ عبد العزيز قرار العودة لتحرير العاصمة السليبة، والبدء بإقامة الدولة من جديد، وهو يروي تفاصيلها ولمّا يمض على حدوث تلك الأحداث سوى ربع قرن، ثم يفيض المقال الحديث عن ملامح شخصية الملك وقوامه وأطباعه وعلاقته بشعبه، وقبل كل ذلك وبعده علاقته العميقة بخالقه وصدق حرصه على بناء دولته على أسس من الإسلام الحق.

أما المقال الثاني، فنشر في العـام التالي (1930) في مجلة: (The Living Age) عدد سبتمبر(أيلول) 1930 مترجماً بالإنجليزية من الألمانية، نقلا عن جريدة (The Neue Zurcher Zeitung ـ زيوريخ الألمانية اليومية) وعنوانه (قلب الجزيرة العربية: The Heart of Arabia) وقدمت المجلة للكاتب بالمقدمة الآتية:

«ليوبولدفايس المصنف بمستوى الرحالتين داوتي ولورنس، بوصفه واحداً من المتخصصين بشؤون الجزيرة العربية، وهو هنا ينقلنا إلى قلب البلاد التي تجول فيها، والمجتمع الذي عاش في وسطه». في هذا المقال ذي الخمس صفحات، يصف محمد أسد حال الرياض التي يطلق عليها (قلب جزيرة العرب)، فيتحدث أولاً عن وادي حنيفة الذي يحدها غرباً، والواحات الواقعة في وسطه، ثم يتحول إلى وصف المدينة، وقصرها الملكي، والفانوس الكبير الذي يضاء من أعلاه عندما يكون الملك حاضراً. كما يتناول وصف قصر الضيافة في شمال العاصمة الذي يستقبل آلاف الضيوف يومياً يفدون للسلام على الملك في إعراب تلقائي عن إعجابهم بشخصيته وولائهم لقيادته. كانت الرياض مدينة صغيرة جميلة محصورة ببضع بوابات، وبالرغم من أهميتها السياسية إلا أن سوقها الذي يعج بالحركة لا يحاكي في حجمه سوقي بريدة وحائل، ولذلك فإن زائريها لا يأتون للتبضع بقدر ما يفدون لأغراض سياسية واجتماعية أخرى، وهم خليط من كل شرائح المجتمع وبلدات الخليج والدول المحيطة، لا تكاد العين تخطئ ملامحهم واختلاف لباسهم نسبياً، ثم يختم وصفه الدقيق لوضع المدينة بقوله: إذا كانت الرياض تمثل قلب الجزيرة (Arabia) فإن شخصية الملك عبد العزيز هي في الحقيقة محركها (Motor).

لن أستفيض في نقل تفاصيل المقال، لاعتقادي بأن كثيراً مما قاله فيه، ظهر في كتابه «الطريق إلى مكة» الذي أكمل تأليفه بعد عامين من نشر مقاله، لكنه ينهي مقاله بالحديث عن تكافؤ ديمقراطية الملك وتحليه بالعدل والإنصاف مع سلطته المطلقة. وذكر أنه لم يعرف ابناً في مثل سلطته عامل والده مثلما كان عبد العزيز يحترم والده الإمام عبد الرحمن، (المتوفى سنة 1926 أي قبل ثلاثة أعوام من تاريخ المقال) حيث كان الابن يقف في خدمة والده ولا يقعد طيلة حضور الأخير في المجلس.

أما النموذج الثالث، فقد نشر في الصحيفة نفسها، بعد عام من نشر سابقه، وكان بعنوان: جبال الجزيرة Mountains of Arabia وظهر في ست صفحات، وقدمت له الصحيفة بالمقدمة السابقة نفسها.

يصف في هذا المقال رحلة قام بها على ظهور البغال من مكة المكرمة شرقاً باتجاه الطائف (على بعد نحو 120كم) لكنه بدلاً من أن يسلك الطريق المألوف السهل المسمى (طريق السيل) الذي يتلافى الجبال الوعرة ويمرّ بضاحية الشرايع، فإنه اتبع الطريق الذي يمر بجبل الكرا البالغ التعقيد، حيث قد يحتاج عابره أحياناً في بعض مراحله إلى ترك راحلته واجتيازه سيراً على الأقدام.

مدينة الطائف هي مصيف الحجاز، ويوجد فيها منتجعان هما (الهدا والشفا) المتميزان بانخفاض ملحوظ في درجة الحرارة وبجودة إنتاجهما من الفواكه والورود (على ارتفاع 2000 متر عن سطح البحر)، وهما يقعان على جانبي طريق الهدا المذكور. ونظراً لقرب هذا الطريق واختصاره المسافة بين مكة المكرمة والطائف، سعت الدولة السعودية منذ عهد الملك سعود إلى تسويته وسفلتته، وجعله بديلاً للطريق القديم لا يلغيه.

لا بد أن هذه الرحلة التي قام بها محمد أسد تمت في حدود العام الذي وصل فيه إلى الحجاز (1927)، وكالعادة بالنسبة للرحالة الأجانب، يكون التركيز في تلك المقالات على السمات الطبيعية والاجتماعية التي تلفت الأنظار، مثل أنواع الصخور والنباتات والطيور والملامح الأثرية والاجتماعية والثقافية للسكان. والمعروف أن مدينة الطائف تقع وسط سلسلة جبال الحجاز، ويبدأ منها الانحدار تدريجياً نحو هضبة نجد.

وبعد:

إن ما نشره محمد أسد من مقالات، أو دراسات مبكرة بالألمانية أو الإنجليزية ـ عن حال بلاد الشرق الأدنى، وعن أوضاع الجزيرة العربية في مطلع العهد السعودي، أو عن التحولات التي قادته إلى الإسلام ـ يفوق تلك النماذج الثلاثة، وما تزال بقية كتاباته القديمة، وبقايا مخطوطاته المتأخرة بحاجة إلى حصر وتوثيق وترجمة، وهو أمر تعرض لكثير من التعقيدات قبيل وفاته وبعده، ثم زادت صعوبة تحقيقه بعد وفاة زوجته الأمريكية بولا حميدة التي كانت قد وضعت يدها على تراثه المتأخر، وكانت عقبة في الإفراج عنه.

* كاتب وباحث إعلامي سعودي