العراق : الحاجة لتغيير الموضوع

TT

مع نهاية الصيف لا بد من جردة حساب لواقعنا تستبدل الحديث عن «القضايا الكبرى» و«المصيرية» بالحديث عن القضايا التي تبدو انها «صغرى» و«تفصيلية»، حديث كفيل ربما بإزاحة بعض من أوهامنا وإعادة ترتيب الاولويات لنعرف ما هو مهم وما هو أهم، ما هو تحد حقيقي يمكن اختباره حياتيا، وما هو تحد وهمي يعتاش على المخاوف والأوهام والأحلام. كان الصيف في العراق هذا العام موجعا كعشرات الاصياف اللاتي سبقته، ورغم انه اول صيف منذ اربعة اعوام يشعر فيه العراقيون ببعض الامان الى حد ارتكاب مجازفة الخروج الليلي الى الشارع بلا حساب لاحتمال مصادفة عابر طريق يستعجل الذهاب الى الجنة عبر تمزيق أجساد الأبرياء، أو رصاصة، طائشة، أو يراد لها ان تبدو كذلك، فإن متاعب الحياة ما زالت ثقيلة على النفوس التي اختبرت محنا قلّ أن يختبرها شعب حي وما زال يسعى للحياة. الكهرباء في الحقيقة هي «أمُّ القضايا» في العراق، ورغم إصرار البعض من العراقيين وغير العراقيين على فرض أجندات تبدأ بالاتفاقية الامنية مع الولايات المتحدة، وتمر بكركوك وخانقين، ولا تنتهي بزيارة نائب الى اسرائيل، على اهمية إدانتها، إلا انها تأتي في عصر اصبح هذا الحدث فيه اكثر طبيعية من تأجيل المسؤولين العرب زياراتهم للعراق، رغم هذا الاصرار فإن الكهرباء والماء والدخل المعيشي وأسعار الغذاء، وأخيرا الكوليرا، هي القضايا الاهم لدى العراقي العادي، والسبب ببساطة ان العراقيين هم اناس عاديون يريدون حياة عادية لهم ولابنائهم، وليسوا كما يتوهم البعض أسرى «معارك المصير» و«الحرب العالمية على الارهاب» التي استرخصت أجسادهم وأرواحهم بدون أن تسألهم عما يريدون.

لقد آن أوان تغيير الموضوع، لم يعد الزمن يتحمل مزيدا من الاستذكاء والمرور البارد على آلام الناس ومعاناتهم والوعود الفارغة.. العراقي يريد ان يرى نورا عندما يضغط على زر الكهرباء المعلق منذ زمن طويل على الجدران بلا جدوى، يريد هواءً يعينه على سطوة الصيف في تموز وآب حيث تصل درجات الحرارة حد نصف درجة الغليان، وحيث يحل رمضان ضيفا على الصيف، بينما قلوب العراقيين أضناها العطش لماء بارد نظيف، غير ذاك الملوث الذي حمل معه مؤخرا الكوليرا ليضيف هما جديدا على هرم الهموم الذي يأبى إلا الارتفاع. حياة العراقي تشبه من يراد له السير مغمض العينين في حقل من الألغام، والأنكى من ذلك ان عليه وهو يعبر هذا الحقل ان يجادل الاخرين حول الاتجاه الصحيح للعبور!

في أمريكا الغنية، صاحبة اكبر اقتصاد في العالم، تظل القضايا الاقتصادية والاجتماعية المتعلقة بحياة الانسان العادي، كقضية التأمين الصحي واسعار العقارات والتعليم، هي القضايا الاكثر اهمية في الجدال الانتخابي، ورغم وجود مساحة كافية لترف الحديث حول قضايا ذات قيمة رمزية إلا ان الامريكي يصوت في النهاية بحسب ما يمليه عليه «جيبه» كما يقولون. اما في العراق المنهك حدّ ان يبدو حتى الحديث عن الانتخابات الامريكية ترفا لا طائل منه، حيث الناس يكابدون لتوفير ادنى الشروط الحياتية للوجود وحيث نواجه في القرن الحادي والعشرين مشاكل هي بنت القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين (الكهرباء، الماء النظيف، المستشفيات، المجاري ،....)، في مثل هذه الظروف يصر البعض على ان يغرقنا بنقاشات ترفية حول الحدود بين المحافظات وحول «هوية العراق» وحول نفس القضايا «الكبرى والمصيرية» التي كنا نناقشها في الخمسينيات والستينيات وهي ما يمكن تسميته بقضايا الشعارات حيث لا قيمة ولا مساءلة ولا محاسبة للمتنافسين في مزايدة لا سعر نهائياً لبضاعتها ...

العراق بحاجة الى الشروع في نقاش جديد لا يقوم على استغفال الناس ومداعبة غرائزهم الوجدانية، نقاش يتواضع فيه «السياسيون والمفكرون» وتجار «القضايا الكبرى» فيقبلون الحديث حول ما يبدو انه اقل من مستوياتهم، الحديث عن الكهرباء وكيف يمكن توليد اكبر قدر من الطاقة بأسرع وقت حتى يكون صيف العراقيين القادم أقل وطأة ورمضانهم القادم الذي سيكون كله صيفا أيسر على النفس، حديث يقول للناس صراحة لماذا وكيف ومتى، كم محطة توليد لدينا واين هي وما هي مشاكلها، أي سياسة موضوعة وما هي الخطة وما هي تحدياتها وأفقها الزمني، ببساطة إن الافق الزمني لحل مشكلة الكهرباء هو أهم لدى العراقي العادي من الافق الزمني لانسحاب القوات الاجنبية، بغض النظر عما يقوله الآيديولوجيون ورواد المزادات السياسية. لا بد ان يتم التركيز على قضايا من قبيل الاوضاع الصحية والبيئية ومياه الصرف واوضاع المستشفيات والمدارس، لا بد من ان تغدو هذه القضايا هي الكبرى وهي الحقيقة التي من خلالها يمكن تقويم المتصدين للمسؤولية، لا بد لقادة الفعل الاجتماعي أن يسهموا في إنهاء حالة التغييب المتجذرة في ثقافتنا لمعاناة المواطنين الحقيقية او الخجل من مناقشة تفاصيل تلك المعاناة بدلا عن مناقشة القضايا المجردة التي لا تغني من جوع. لقد آن الأوان للعراقيين ان يحددوا أجندتهم بأنفسهم بدل ان يتركوا الاخرين يقولون لهم ما يجب الحديث عنه، والاهم من الحديث نفسه انه آن أوان وضع معايير عملية يمكن من خلالها تقدير قيمة الإنجاز او عدمه، كفاءة الأداء من فشله، فتلك التي تبدو تفاصيل تقنية صغيرة هي مصدر آلام ومعاناة الملايين اكثر من تلك التي تبدو قضايا كبرى مصيرية. ان القضية الكبرى الوحيدة هي حياة الانسان التي يغدو امامها كل شيء آخر ثانويا وقابلا للتغيير.