أربع محطات

TT

عند تكريمي في الاحتفال الذي أقامه المنتدى العراقي في لندن، سألوني أن أتكلم عن سيرتي، فتكلمت عن أربع محطات رئيسية مررت بها وصاغت تفكيري. كانت المحطة الاولى في سدة الهندية. ذهبنا اليها في سفرة مدرسية. استقبلنا الفلاحون. الكل يدعوننا للنزول والاسترواح في بساتينهم. قلت يا لكرم هؤلاء الناس! لا يعرفوننا ويدعوننا لاستضافتنا. سرعان ما تبددت الفكرة بعد ان اكتشفت انهم كانوا ينتظرون منا ان نأكل عندهم ليأكلوا هم مما نتركه من طعام. وهو ما جرى. وعندما انتهوا من اكل فضلاتنا، جاءت نساؤهم ليأكلن مما تركه الرجال من بقايا. انتهت النسوة فجاءت كلاب البستان لتأكل مما تركته النساء. اندلعت معركة ضارية بين الكلاب عندما جاء كلب متطفل من بستان مجاور وحاول مشاركة كلاب هذا البستان في اكل فضلات فضلات فضلات الافندية.

رأيت كل ذلك وانا طفل صغير. ورحت أسائل نفسي، اي وطن هذا الوطن الذي يعيش فيه منتجو الطعام، الفلاحون، على فضلات ما يتصدق به الافندية، وتعيش النساء على فضلات الرجال والكلاب على فضلات النساء؟ تحول هذا المشهد الصغير في نفسي الى هوس في موضوع الفقر والفقراء. ما ان سمعت بكلمات الإمام علي «لو كان الفقر رجلا لقتلته» حتى تحول الى شعار مستحكم في نفسي. لا شيء في دنيا السياسة والفن والمجتمع يعنيني كمسألة الفقر والفقراء. حتى في كتابتي اصبحت اميل الى العامية لأنها لغتهم. واحرص على الغناء والشعر الشعبي لأنه فنهم. اكره الحداثة والفن الحديث لأنه مستحكم عليهم.

اوقعني ذلك في كثير من المطبات وجعلني كاتبا مكروها ومرفوضا بين الكتاب لما تبنيته من افكار مرفوضة. انتميت للحركة الشيوعية لاعتقادي بأنها حركة المحرومين والكادحين ثم انقلبت عليها عندما وجدتها لم تزد الفقير الا فقرا. شاركت في الحركة الوطنية ثم دعوت في هذه الجريدة لعودة الاستعمار بعد ان اكتشفت ان الانجليز كانوا أرأف بالفقير من حكامنا الوطنيين. ثم سميت حركة التحرر الوطني في العراق بحركة الحرامية لأن الوطنجية حالما تخلصوا من سيطرة الانجليز سارعوا الى نهب الاراضي الاميرية والثروات الوطنية وجعلوا الرشوة والاختلاس سنة في البلاد. كرست عدة سنوات من حياتي لنصرة القضية الفلسطينية ثم نفضت يدي منها بعد ان وجدت قادتها لا يعنيهم امر الفقير من قريب او بعيد. يتسلمون المعونات ويسلمونها لحساباتهم الخاصة ثم يتباكون على معاناة الشعب الفلسطيني. اولادهم في المدارس الخاصة الاجنبية ويناشدون اولاد العامة بالتضحية والفداء والانتحار من اجل القضية.

الى كلمات الامام علي، اضفت شعارا ثانيا: «كل من يأخذ امي اسميه عمي». كل من يوفر للفقير الغذاء والكساء والدواء، سواء اكان الاستعمار او الرأسمالية او حتى الحكم الاسرائيلي ، فأنا احطه على رأسي. لن تجدوني اشغل بالي بالعزة والكرامة والسيادة الوطنية . هذه امور – كما وجدت – لا تشغل بال الفقير. فلا عزة ولا كرامة لمن لا يملك عشاء ليلته.

www.kishtainiat.blogspot.com