إلى الجبابرة

TT

كان هناك رجل (شبه مجنون)، جلس سنين طويلة يقلّب بين يديه (جمجمة مجهولة)، ويتساءل بينه وبين نفسه تارة، ثم يتساءل وهو يصيح موجهاً سؤاله للناس تارة أخرى: هل هذه الجمجمة لفقير أم غني؟!، لخادم أم زعيم؟!

كان يبكي ويعرف أنه لا يعرف، والناس يمرون به مسرعين وضاحكين من خفة عقله، وهم لا يعرفون أنهم لا يعرفون.

صلاح الدين الأيوبي الذي حفر اسمه في صفحة التاريخ بالأزاميل لا بالحبر الشفاف، أوصى بأن يُطافَ بجثمانه بعد وفاته، ملفوفاً بكفنه، على رأس جيشه، وأن يصرخ صارخٌ عند كل استراحة قائلاً:

إن صاحب هذا النعش، كان يملك دولاً وولايات وثرواتٍ لا تُحصى، ولم يبق له غير هذا الكفن.

ليس كلامي اليوم تطيّراً، ولا دعوة للزهد، ولا إعراضاً عن الدنيا، ولا هروباً للخلف ولا للأمام لكنه نوع من (المقارعة) ـ إن جاز التعبير ـ فالحياة رغم أنها تملكنا فنحن أيضاً نملكها، غير أن الموت هو الحقيقة الوحيدة التي تملك الأحياء جميعاً بمن فيهم (نحن) الذين ننسى أو نتناسى.

هل هذا الكلام مقدمة لرثاء نفسي؟!

من الصعب أن أوافق على ذلك لأنني أحب الحياة جداً، وأتشبّث بها أكثر مما يتصور أحد، بل وأكثر مما أتصور أنا بذاتي، فهناك أمور كثيرة لم أجربها بعد، وهناك أماكن أخرى لم تطأها قدماي ولم أعبث بها بعد، وهناك وجوه كثيرة لم أرها بعد، وهناك مغامرات ومناورات ومؤامرات لم أخضها بعد.

ولا أعتقد أن مائة سنة تكفيني لتحقيق (نصف ما أتمنى على الأقل)، لأن هذا الذي (يملكني) ولا أقدر عليه، يقف لي في أحد (المنعطفات)، وقد يفاجئني بطلعته (غير البهية) قبل أن يرتدّ لي طرفي.

الذي أدعو إليه رغم أنني لست بداعية، بل وأرفض أن أكون داعية، وإنما أنا أدعو بصوت متقطع، ولا منبر تحت قدميَّ، ولا ميكرفون في يدي، ولا منهاج مكتوب أقرأ منه، وإنما هو مجرد كلام (هوائي) موجه إلى جبابرة المال والجاه والركض واللف والدوران.

اسمعوني لا حرمكم الله من (آذانكم المترهلة)، واعلموا أنه إذا فاجأكم هذا الذي يُقال له: (هادم اللذات ومفرق الجماعات)، فلن تأخذوا ساعتها معكم (موبايل أو انترنت)، أو صوراً وتذكارات لأحبابكم وأطفالكم.

والحمد لله على العدل على كل حال، وصدق الفيلسوف الفرنسي (مارك اوريل)، عندما قال: «لو كان الموت قاصراً على فئة من الناس دون غيرها، لكان الموت بليّة لا تطاق».

صدق مسيو (اوريل)، فأنت أيها الموت العزيز تطاق ثم تطاق، ولكني أرجوك (ابعد عني شويه).

[email protected]