هوشيار

TT

انتخابات 2009 هي التي ستقرر مستقبل العراق، بخياراته الثقافية ونظامه السياسي. ورغم أهمية الانتخابات السابقة، إلا أن الانتخابات القادمة هي التي ستحدد طريق المستقبل، ستغير التحالفات، وستنبثق منها مسارات جديدة للعراق، شعبا وحكومة.

مستقبل العراق مرهون بسؤال واحد: «هل العراق دولة مدنية علمانية، أم أنه ضمن مشروع دولة إسلامية طائفية»؟ في شكل الإجابة عن هذا السؤال، ومن قبل كل طوائف العراق، سيحدد مستقبل هذا البلد الكبير والمهم في منطقة الشرق الأوسط.

هكذا بدأ وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري حديثه معي، حديث طويل امتد لأكثر من ساعة، على هامش المؤتمر السنوي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في جنيف، والذي يسمى «مراجعة سنوية للسياسات العالمية». وتصادف المؤتمر مع احتفال المعهد بمرور خمسين عاما على تأسيسه. كان زيباري متحدثا رئيسيا في هذا المؤتمر، إلى جانب روبرت زوليك رئيس البنك الدولي، والذي تحدث عن الأزمة المالية العالمية. تناول النقاش مع هوشيار (معناه النبيه والذكي باللغة الكردية) قضايا الشأن العراقي بتعقيداته المتعددة وانعكاساته على المنطقة ككل، وكان الرجل خفيف الظل متفائلا بمستقبل العراق، يليق به الاسم الذي أطلقه عليه أصدقاؤه وهو «المتفائل دائماً».

وبالطبع، بالحديث مع زيباري، لا بد أن تأخذ المسألة الكردية بخصوصيتها وحساسيتها الحصة الأكبر منه. وكان مما يدعو إلى الاستبشار خيرا، كيف يرى وزير عراقي كان في شبابه من مقاتلي البيشمركة الأشداء ومن خلايا العمل الكردي السري، دور الأكراد في العراق الجديد. «كلما طرح الأكراد قضاياهم في سياق عراقي وطني أرحب، حققوا مزيدا من المكاسب.. الأكراد يجب ألا يكونوا أسرى جبال كردستان، نحن شعب قديم وأبناء وطن أرحب هو العراق.. يجب ألا يطالب الأكراد بحدود محددة لإقليم كردستان، لا بد أن ترتفع مطالبهم إلى كل العراق، عراق لكل المواطنين العراقيين مبني على أساس المواطنة لا على أساس الطائفة أو العرق».. العراق لا العرق، هذا ما أراد الوزير أن يقوله عن رؤيته لموقع الأكراد في دولة العراق.

الأقليات دائماً في أي مجتمع أو دولة هي صمام الأمان الذي يجعل الأغلبية تفكر طويلا وكثيرا قبل ارتكاب حماقاتها. الأكراد أقلية عرقية من موزاييك عرقي وديني وطائفي متنوع في العراق، ومنطقة الأكراد في شمال العراق، على وجه التحديد، هي مساحة ليبرالية مقارنة مع جوارها، ورغم أنه مجتمع مسلم، إلا أنه إسلام منفتح على العالم. الثقافة في منطقة الأكراد هي ثقافة ليبرالية. وأن تتمسك هذه الأقلية «الأكراد» بوجودها ضمن الصيغة العراقية الفيدرالية، فهذا موقف يجب أن يتشبث به العراقيون جميعا. حتى أن زيباري، الذي بقيَّ له خمس سنوات على عمله كوزير خارجية للعراق، قال لي إنه يفخر بأن العراقيين لا ينظرون إليه ككردي وإنما كعراقي يمثل كل العراق، رغم أنه وزير في حكومات بنيت على توافقات حزبية وطائفية وقومية. وجود الأقلية يحمي الأغلبية من نفسها ومن التطرف. وربما هذا هو حال الأقباط في مصر أيضا، أقلية تقي الأغلبية شر نزعاتها البدائية المتطرفة.

في الساحة العراقية اليوم، بلا شك، أصوات تريد أن تأخذ العراق إلى الحالة الشمولية، سواء أكانت طائفية أو عرقية. وإذا ما دخل العراق هذا النفق، فإنه سينتهي إلى صدام جديد، لأن صدام لم يأت إلى العراقيين من السماء، بل كان نتاج مجتمعه وثقافة هذا المجتمع. «مشكلة العراق هي مشكلة ثقافية في المقام الأول، فإذا ما بني العراق الجديد على أساس المواطنة المتساوية بعيدا عن التحزب والعرق والطائفة، سينتقل الناس عندها إلى حالة تقبل الديموقراطية، وقد نرى وقتئذ»، كما قال لي وزير الخارجية العراقي «(ألف هوشيار)، ولن تكون تلك حالات مصطنعة». ولن يستغرب العراقيون وجود وزير كردي أو آشوري في حكوماتهم، أو من أي طائفة أو أي عرق مهما قل أو كبر حجمه، لأن ذلك سيكون نتاجا طبيعيا للشعور بالمساواة.

المسألة الكردية هي الاختبار الحقيقي ليس للعراق فقط، بل للعديد من دول الجوار، اختبار لقدرة هذه الدول ومجتمعاتها على الانتقال إلى التعايش القائم على المساواة والعدالة والذي سيقود بطبيعة الأمر إلى مجتمعات ودول ديمقراطية. فتركيا التي تسعى بكل قواها إلى الالتحاق بالقارة الأوروبية، ظل الملف الكردي هو المنغص الأساسي لملفها في حقوق الإنسان. سؤال الأقليات هو من أسئلة المنطقة الأساسية، سؤال قيمي في المقام الأول. فالمنظومات الدولية جميعها أصبحت منظومات قيمية تتشارك القيم ذاتها في العدالة والمساواة وحقوق الإنسان وغيرها من الحريات الأساسية.

لا أخفي أنه، ومنذ الوهلة الأولى التي سمعت فيها اسم وزير خارجية العراق «هوشيار»، وكنت لا أعرف معنى الاسم، أنني ابتهجت لوجود وزير خارجية لدولة عربية باسم مختلف، تمنيت لو أن أسماء وزرائنا، لا وزراء الخارجية فقط، تعكس تنوع مجتمعاتنا. هوشيار زيباري، بتسامحه ولين عريكته، وعلاقات الأقلية الكردية الناجحة على المستوى الدولي، هي التي جعلت من الممكن له أن يروج لبلد منكوب تحت الاحتلال.

حكى لى الوزير العراقي، أنه في أول لقاء له مع وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول، أشار إليه يومها بـ«نظيري»، قالها هوشيار زيباري وهو يضحك بقوة. «لقد كنا تحت الاحتلال، وها هو وزير خارجية الدولة العظمي يسميني نظيره، ضحك جماعتنا عندما سمعوا التعبير». ويتابع الوزير: «نصحني كولن باول من خلال خبرته كوزير خارجية، أن أستغل أي فرصة للحصول على أكبر قسط من الراحة والنوم، فقلت له: لا عليك، عندما كنت ضمن مقاتلي البيشمركة، كنت أركب على بغل محمل بالسلاح، يهبط من أعالى الجبال إلى أسفل الوديان، وكنت لا أجد صعوبة، في أن أنام وهو يهبط بي في المنحدر».

تجربة زيباري تجربة خاصة، فهو لم يكن دبلوماسياً من قبل، بل كان جزءاً من العمل السري الكردستاني، لذا هو يتحدث مع دول الجوار الذين يقولون بعدم التدخل في الشأن العراقي، من خلال معرفته بالعمل السري، يعرف كيف تهرب الأسلحة عبر الحدود، وكيف تهرب الأموال، فلا يمكن له أن ينخدع بلغة الدبلوماسية، ومع ذلك تظل على وجهه ابتسامة لطيفة وهو في أعلى درجات الجد والحسم. مجمل حديثي مع الوزير العراقي كان ينصب على رؤيته لدور العراق المستقبلي ومستقبل التحالفات والقيادات العراقية المختلفة، كان الرجل حذرا فيما يقول، وقال الكثير مما اتفقنا على أنه ليس للنشر، وتبقى النقطة المركزية أن المساواة في المواطنة هي المنقذ الوحيد ليس للعراق وحده، وإنما للمنطقة بأسرها.