كشف الادعاء: بداية عالم جديد

TT

كانت الفكرة الأساسية التي اعتمد عليها جورج بوش في شنّ حروبه ضدّ أفغانستان والعراق في أعقاب الحادي عشر من أيلول هي أنه يريد «محاربة الإرهاب في عقر داره كي لا يعبر المحيطات ويصل إلى الشعب الأمريكي». وتبنّت إدارته انخفاض الهجمات على الولايات المتحدة معياراً يبرّر صوابيّة هذه الحروب، ويثبت ضرورتها. وبهذا المنحى، فقد قسّمت هذه الإدارة العالم إلى «هم» وَ «نحن»، وصبغت «هم» بالأوصاف التي تريد من إرهاب وعدوانية وتطرّف كي تبرّر لـ «نحن» كلّ ما يقومون به من حروب وعنف واعتقالات وتعذيب «لمشتبه بهم» وإرهاب وإصدار قوانين تستهدف في جوهرها العرب أو اتباع الدين الإسلامي في الغرب بذريعة أو بأخرى. ونتيجة هذه الاستراتيجية العسكرية ـ السياسية ـ الفكرية، فقد بدأت مظاهر حقيقية للعنصرية في الغرب ضدّ العرب والمسلمين بعضها واضح وبعضها الآخر يحتاج فقط إلى كشف ورقة التين التي تستره. ولعلّ أبرز مظاهر الصنف الثاني من العنصرية المعادية للعرب هو تجاهل آثار هذه السياسات كلّياً على الآخرين خارج حدود البلدان الغربية، إذ لا يحمّل الإعلام الغربي نفسه عناء ذكر نتائج هذه الحروب وهذه السياسات على البلدان المستهدفة، فتُقصف المدارس، ويُقتل الأطفال والنساء وهم نيام في منازلهم، ويُشرّد ويُقتل ويترمّل الملايين، ويتمّ تدمير مدنهم، وقصف قراهم، ويتحوّلون جميعاً إلى مجرّد أرقام لضحايا مجهولي الهوية، وتنتزع وسائل الإعلام الغربية إنسانيتهم منهم وكأنهم يعيشون على كوكب آخر، وينتمون إلى جنس آخر خلاف الجنس البشري الذي تدّعي هذه الحروب الحرص على أمنه وكرامته وسلامته. من هنا فقد ارتكبت إدارة بوش جرائم يندى لها جبين الحضارة الغربية بحقّ الشعب العراقي والفلسطيني والأفغاني والصومالي واللبناني، ومؤخرا الباكستاني، فيما تواصل أجهزة الدعاية الغربية بثّ الدعاية المكرورة عن «إرهاب» وَ«متطرفين» وَ«إرهابيين» وَ«مسلّحين»، وحين تتكشّف الحقيقة عن أنّ الضحايا هم من الأطفال والنساء، قد يقوم وزير الدفاع الأمريكي مثلاً، كما فعل مؤخراً في أفغانستان، بالتعبير عن «أسفه لقتل المدنيين من الأطفال والنساء في قصف جوّي أمريكي»، ويعتبر بوش هذا «الأسف» ثمناً كافياً لحياة الآلاف من الأطفال المدنيين الأبرياء، ولليتم والثكل والخراب والألم والمرارة التي تسبّب بها دعاة نشر الديمقراطية!

وكان الادعاء السائد خلال كلّ هذه الفترة أنّ الولايات المتحدة، والتي تمتلك أكبر اقتصاد وأضخم جيش في العالم، قادرة على أن تفتح جبهات عديدة أخرى من الحروب في أنحاء مختلفة من العالم دون أن يرفّ لها جفن، ودون أن يتأثّر اقتصادها بشيء، وقد عزّز الصلف السياسي والعسكري، والتزمّت الديني للمحافظين الجدد هذه المقولة رغم اختلاف شرائح واسعة من الشعب الأمريكي معها. وكلّ من شاهد صور نيو أورلينز على التلفاز يستطيع أن يدرك حاجة شرائح واسعة من الشعب الأمريكي إلى مئات المليارات التي تدفع لتزهق الأرواح البريئة للعرب والمسلمين في الشرق الأوسط لصالح تشغيل معامل السلاح الأمريكية وشركات النفط الضخمة بدلاً من استخدامها في نشر التعليم والصحة وفرص العمل مثلاً التي يحتاجها الجميع هنا حيث الضحايا، وهناك حيث المعتدون. وبما أنّ أيلول قد تمّ تحويله إلى شهر يحمل تاريخاً استثنائياً في الولايات المتحدة، فقد زاد من استثنائيته هذا العام أنه شهد أحداثاً غير عسكرية وغير سياسية، بل أحداثاً اقتصادية جسام لم تشهدها الولايات المتحدة منذ أكثر من نصف قرن، التي شكّلت هزّة للمجتمع الأمريكي ولصورة حلم الازدهار الأمريكي في العالم لا تقلّ خطورة ودرامية عن الهزّة التي سبّبتها أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، وإن تكُ لأسباب مختلفة وذات نتائج على صعيد مغاير تماماً.

إنّ ما أكّدته الإفلاسات التي أصابت كبرى الشركات الأمريكية، والهزّات المالية لشركات عملاقة في الولايات المتحدة، ومسارعة الحكومة لضخّ مئات المليارات لإنقاذ هذه الشركات من السقوط المريع هي الفكرة البديهية التي تدرّسها جميع الجامعات الأمريكية، وهي التداخل في مجالات الحياة، تماماً كما هو التداخل في مجالات الأدب والعلوم والطبّ والفكر والفلسفة. ذلك لأنّ الحياة الإنسانية ذات نسيج واحد متعدّد الأشكال والألوان، ولكنه ذات النسيج الذي يهدف في النهاية إلى استمرار نبض الحياة والاحتفال بهذا النبض سليماً معافى، ودرء كلّ الأخطار التي قد تنال منه أو تعكّر صفوه، أو تلحق الأذى من بين يديه أو من خلفه. وذلك لأنّ حياة الإنسان أيضاً ذات قيمة متساوية دينياً وأخلاقياً وحضارياً ومعرفياً، سواء أكان هذا الإنسان في قمّة الهرم الاجتماعي أو في أسفله، وسواء أكان أبيض اللون أم أسوده، وسواء أكان من أتباع موسى أو عيسى أو محمد أو بوذا. هذه البديهيات البسيطة المعروفة للجميع هي التي تنكّر لها المؤمنون بقدرة الأساطيل البريّة، وبجبروت القوّات البريّة والبحرية والجوّية سبيلاً وحيداً للوي عنق التاريخ والحقيقة والمسار البشري، فتوهّموا أنّ القدرة العسكرية وحدها تغيّر مسار البشرية، وأغمضوا أعينهم عن آلام وقسمات الوجوه التي يقتلونها بالتعذيب والقصف، وتستصرخ العدالة والحقّ والقانون، واستهانوا بالعذاب البشري في الداخل والخارج فامتنعوا عن الإعلان عن قتلاهم، أو تشييعهم بالطريقة التي تليق بـ «تضحياتهم»، وتعاموا تماماً عن الكوارث الإنسانية التي سبّبوها في البلدان المستهدفة، فصمّوا الآذان عن صريخ الأطفال والنساء والشيوخ فتبلّد لديهم الشعور بالإنسان وألمه وكرامته، وأصبحت الثروة والطاقة والقوّة هي المعايير الأساسية لكلّ تحرّك ولكلّ استراتيجية ولكلّ خطّة يقومون بها فيما وراء البحار رغم أنّ جامعاتهم نشرت دراسات عدّة منذ سنين بأنّ الاقتصاد الأمريكي يعاني من المديونية المتزايدة، وأنّ حسابات الولايات المتحدة تعاني من العجز المزدوج في الميزان التجاري والحساب الجاري، وهي الوحيدة في العالم التي تطبع الدولار دون رصيد، وأنّ هذا الدولار، رغم وضعه العالمي الحالي، هو في النهاية مجرّد ورق يُطبع بكميات هائلة، وأنّ هذا يعني عملياً إفلاساً حقيقياً بالمعنى الاقتصادي السليم. ولكنّ كلّ هذه الإنذارات لم تلقَ آذاناً صاغية لدى المغرمين بالقوّة العسكرية واستخداماتها الظالمة.

في أيلول هذا العام الجاري بدأت مظاهر العالم تتغيّر إثر المذبحة المالية التي أصابت، وماتزال، الشركات الأمريكية، وإثر نكسات السياسة الخارجية المتمثلة بهزائم حلفائها المحليين في عدد متزايد من البلدان، وهزائم الجيوش الأمريكية في سوح القتال، وسوف يتحدّث أحفادنا عن حقبة شهدت بداية تحوّل العالم من طغيان قطب واحد إلى أقطاب عدّة، وها نحن نشهد بداية انهيار القوّة الامبراطورية الأمريكية كما عرفها العالم في نهاية القرن العشرين، وبداية القرن الحالي. سيكون هذا العقد أكثر أهمّية في التحولات التي يشهدها العالم بعد كلّ من الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، وسيستغرب الأحفاد قصص الحروب والغزوات والظلم والإجحاف والكوارث الإنسانية التي تلتها، وسيستغربون أكثر، صمت العالم لسنوات حيال ما يجري، وصلف مشعلي الحروب والاستمرار في غيّهم. من منظور تاريخيّ، سوف يُسجّل التاريخ انتصار المقاومة في لبنان على العدوان الإسرائيلي، المدعوم أمريكياً بمليون قنبلة عنقودية، وحتى بشخص وزيارات كونداليزا رايس للمنطقة، وتنبّؤها بولادة شرق أوسط جديد، بأنه كان انتصاراً نجمت عنه ولادة شرق أوسط جديد، ولكنه مختلف تماماً عن الشرق الأوسط الأمريكي الذي كانت رايس تخطّط أن تشهده. كما سوف يُسجّل التاريخ قرار روسيا بمواجهة الأخطار المرسلة إليها عبر القفقاس والدرع الصاروخي، الذي يهدّد بفرض ستار حديديّ جديد حولها، بأنّه قرار تاريخي غيّر وجه العالم للعقود القادمة، وبدّل في مفهوم القطب الواحد والقوّة العسكرية. كما سيُسجّل التاريخ تحرّك دول أمريكا اللاتينية لتعزيز استقلالها والتصرّف بثرواتها كخطوة ساهمت في صياغة العالم الجديد. كما سيُسجّل التاريخ الفيتو الذي استخدمته روسيا والصين في مجلس الأمن لمنع فرض عقوبات على زيمبابوي والسماح للعملية التفاوضية السياسية التي تقودها جنوب أفريقيا أن تنجح بأنه خطوة أولى على الطريق الصحيح. كما سيُسجّل استمرار إيران في برنامجها النووي السلمي لتكون مثالاً يُحتذى من دول تفكّر بمصالح شعوبها لما بعد النفط. كما سيُسجّل التاريخ للبعض منا نحن العرب استمرار محاولاتهم لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي وشراء السندات بمئات المليارات في محاولة لإعادة الشباب لاقتصاد هرم عقله وقلبه وجسده! وسيُسجّل التاريخ أنّ إعادة تشكيل مواقع القوى في العالم هي الفرصة الوحيدة لإعادة الاعتبار للحقوق والعدالة التي شكّلت دائماً كنه الحياة الإنسانية ومبتغاها. من ذلك المدى لن تُظهر الدعايات والمسرحيات وآلاف الصفحات من الأكاذيب التي تصدرها بعض المراكز المختصّة كلّ يوم، والتي تجعل من القاتل بطلاً، ومن الضحية إرهابياً، بل سيتمّ إعادة صياغة جمل قليلة تعيد فيها كتابة ما أنفقوا المليارات على تصويره وكأنه الحقيقة. حينذاك لن يُحاسَب القتلة على مجزرة بيت حانون فقط، بل على مئات المجازر التي ارتكبت بحقّ الأبرياء في غزّة وفلسطين كلها، وفي العراق، ولبنان، وأفغانستان، وباكستان، وحينذاك لن يكفي «الأسف» ولا «الاعتذار» لإنصاف من قَضوا، وحينذاك ستنتفي صفة «هم» وَ«نحن»، حيث سيسود معيار واحد لحياة وكرامة إنسانية واحدة. حينذاك فقط سيعرف السياسيّ أنّ الغزو العسكري له عواقب إنسانية واقتصادية قد تكون كارثية على الجميع بما فيه شعبه ومصالح بلده نفسها، وأنّ هذه العواقب لا تنتظر إذناً ولا طائرة ولا باخرة كي تعبر المحيطات. سوف يُسجّل التاريخ أنّ أيلول 2008 قد بدأ بكشف الغطاء عن المقولات المضلّلة التي تمّ تصنيفها وترويجها باسم أيلول عام 2001.

www.bouthainashaaban.com