رجال الدين في خدمة السياسة

TT

يندر أن يمر حدث سياسي لا يستخدم فيه رجال الدين، وها هو يتكرر بسبب الخلاف العربي الإيراني. فقد نشبت على المنابر والمواقع السنية والشيعية الإلكترونية معركة الجمل الجديدة، لماذا؟ لأنهم الساسة، وهي السياسة.

في واقع الأمر لا توجد مشكلة شيعية سنية، بل نزاع بين حكومات. وبخلاف ما يشاع فلا الشيعة سيصبحون سنة، ولا السنة سيكونون شيعة، ولن يميل أحد الى أي ديانة أخرى. الأمم تبدل معتقداتها على صعيد كبير فقط عندما يغير النظام نفسه ديانته، أو حينما يسقط النظام على يد آخر، أي تتغير الأمم بالاعتناق الرسمي أو بالقهر العسكري. إيران صارت شيعية في القرن الخامس عشر عندما حكمها الصفويون، وتقلبت مذاهب المصريين مع تقلب الأنظمة في مصر من طولونية الى فاطمية ثم أيوبية. والأمر مشابه في الأديان الأخرى حيث اعتنق الانجليز البروتستانتية متخلين عن الكاثوليكية لأن الملكة اليزابيث تحولت اليها في منتصف القرن السادس عشر. عدا ذلك مجرد جدل بيزنطي بين العوام والعلماء.

إيران اكتشفت منذ بداية الثورة أنها رغم نجاحها الديني لم توجد لنفسها زعامة في العالم الإسلامي لأن ثمانين في المائة من المسلمين سنة، حينها ظنت أنه يمكن تغيير الجغرافيا المذهبية. دشنت مشروعها آنذاك عندما احتفت بأحد السنة المجهولين لأنه أصدر كتابا أعلن فيه تحوله الى الشيعية، ومولت بعد ذلك الكتاب نشاطات عديدة، لكن بقي السنة سنة. خطأ قادة إيران أنهم خلطوا بين شعبية الثورة في الشارع السني معتقدين أنها ستعني شعبية للمذهب الشيعي، وهما أمران لا علاقة لبعضهما ببعض. على مدى ثلاثة عقود بدد رجال الدين الثوريون في إيران أموالهم على قلة منتفعة من السنة لم يحدثوا التغيير المأمول.

وأغرب ما فعلته إيران، عندما وسعت حضورها السياسي الديني، أنها قامت باستئجار جماعات سنية أصولية متطرفة مثل «حماس» و«الجهاد» في فلسطين، واستمرت في الوقت نفسه تنفق على بضعة أفراد من السنة لنشر الشيعية، مما يدل على جهل الإيرانيين أو تناقض الأهداف والقيادات داخل إيران!

وبسبب تعاظم النزاع السياسي، كبر الصراع بين علماء المذهبين، فإيران تجرب تعزيز وضعها سياسيا بمحاولاتها نشر مذهبها، وولاية الفقيه، أي الحاكم المعصوم المطلق الصلاحية. وهو مبدأٌ كثير من علماء الشيعة لا يعترفون به أصلا، والوضع أصعب في التفكير السني القائم على التعددية المنبرية. وفي الوقت نفسه الأطراف السنية تحاول الآن جعل إيران عدو السنة عموما.

وبالتالي ما نراه في أصله صراع سياسي، لا مذهبي، رغم كل ما يقال. فمحاولة نشر المذهب الشيعي بين السنة في لبنان، وكل منهما يمثل ثلث السكان تقريبا، عزز الإيمان بنظرية المؤامرة، ووسع التخندق، ورفع نبرة العداء، خاصة بعد أن غزا حزب الله بيروت الغربية السنية. أما الاستثمار في نشر الشيعية في مصر، فلم يحقق إلا خسائر مادية وسياسية، وكان الأرخص لإيران الاكتفاء بالإنفاق على بعض المعارضة اليسارية لإزعاج النظام المصري. عمليا ثلاثون عاما من محاولات نشر الشيعية في العالم السني لم تفرز إلا عن زيادة البغضاء ونكءِ جراحات التاريخ، في حين كان بالإمكان الاكتفاء بالتعايش السياسي والمذهبي.

[email protected]