مجازر حماس: صراع الميليشيا والعشيرة

TT

الدولة العربية المعاصرة، ليست دولة عصرية او حداثية. بعد نحو قرن من قيامها، سواء في عهد الاستعمار أو الاستقلال، لم تستطع أن تمحو ظاهرة التخلف الاجتماعي. لا أقصد هنا الأمية التقليدية، انما ظاهرة كون المجتمع العربي، باستثناءات مصرية وربما تونسية، مجتمعا عشيريا!

أشعر بأن عليَّ أن أكون مؤدبا في الحديث عن العشيرة. فقد باتت الرابطة المخيفة الأقوى من الروابط الوطنية أو المدنية. بل باتت هنا أو هناك أقوى من الدولة العربية المعاصرة اللاعصرية.

القبيلة هي الأصل الجاهلي أو البدائي للمجتمع المدني. القبيلة تتفتّت تاريخيا إلى أفخاذ عشيرية متناحرة أو متعايشة. اجتذبت المدينة العشائر البدوية، فاستقرت في أطرافها. تمدينت وتحضَّرت. بل دخل أبناؤها في صميم الحياة المدنية. بينهم اليوم مثقفون وأكاديميون، ورجال مال وأعمال. لكن ظل الانتماء إلى العشيرة الرابطة الاجتماعية الأقوى التي تربطهم، وتؤمن لهم امتياز المشاركة في الحكم والسلطة.

في المدينة العربية، هناك اليوم العائلة الموازية للعشيرة في القوة والنفوذ وعصبية الانتماء. العائلة المدنية أصغر من العشيرة البدوية، لكنها قد تفوقها نفوذا وتعصبا في الانتماء. هذه العصبية العشيرية أو العائلية هي الغالبة في المجتمع العربي التقليدي، هي ظاهرة مؤسفة ومخجلة من ظواهر تفتته وتعب نسيجه.

لعل تونس وسورية هما الدولتان الوحيدتان اللتان بذلتا جهدا لتحديث وتمدين العشيرة. تونس لا تعاني ما يعاني السودان وليبيا من أسواء المجتمع العشيري أو القبلي. لكن أليس غريبا أن ينتهي نظام قومي يدعى رعاية الحداثة إلى نظام العشيرة العائلية في العراق، ونظام الطائفة العائلي في سورية؟!

أترك التساؤل معلقا بعلامة تعجب. الواقع ان لا عجب أن ينتهي ضعف النظام الحزبي وانغلاقه إلى استسلامه لظاهرة التفتت الفسيفسائي في مجتمعه، والتسليم بل الاستسلام لعصبية العشيرة والعائلة وقوانين وتقاليد المحاباة فيها، المتنافية تماما مع قوانين المساواة في الدولة الحديثة.

أترك التساؤل والتعجب عن العراق وسورية، لأكتشف أن المجتمع الفلسطيني هو أيضا مجتمع عشيري وعائلي، بكل ما تعني العشيرية و«العوائلية» من تخلف ومحاباة وعصبية وثأر وتجاوز لقوانين وأعراف الحياة المدنية. الاقتتال الشرس الذي شهدته غزة أخيرا ما هو إلا ظاهرة لصراع قوى التخلف، صراع العائلة المدنية مع الميليشيا السلطوية.

تبدو حماس في تأديبها وإخضاعها لعائلتي حِلِّسْ ودُغْمُشْ متمسكة بمنطق الدولة الحداثية، منطق رفض المجتمع العشيري، ومجتمع العائلة «المافيوية». غير أن حماس ذاتها منقلبة أصلا على السلطة الشرعية، وقوتها المسلحة هي في الحقيقة مجرد ميليشيا حزبية لا تملك شرعية القوة النظامية.

دليلي على ذلك المبالغة الشرسة في استخدام القوة المسلحة (صواريخ. مدفعية هاون. قنابل يدوية) في اقتحام حياءأأحياء ومنازل الأسرتين الآهلة بالمدنيين. هذا الاقتحام لم يتقيد بالقانون. لم يكن هناك إذن وترخيص قانوني وقضائي بالاقتحام. لم يكن هناك احترام لسلام رمضان لدى دولة «حماس أباد». أبيد عشرات من الأسرتين (قيل أن بعضهم أعدم) وجرح نحو مائتين معظمهم من المدنيين الأبرياء.

تفتتُ النسيج المجتمعي الفلسطيني سمح بتوزيع ولاء الأسرتين على «فتح» و«حماس» و«القاعدة» ومافيات التهريب والمخدرات، في المقابل، سمح تسييس الدين وتحزيبه بتسليط ميليشيا قوامها عشرون ألف إخواني، لإرهاب وترويع مجتمع عربي فقير ومحاصر، بحجة فرض الأمن والنظام، أمن الإمارة الإخوانية، وقانون الدولة الدينية الحزبية المتسيِّسة.

تجربة دولة «حماس أباد» في غزة تكشف خداع المشروع الإخواني في العالم العربي، عن الاستعداد للتعايش مع الآخر، وقبول مبدأ التناوب على السلطة عبر ديمقراطية الاقتراع الحر، وعدم التدخل في خصوصية الحياة الاجتماعية بفرض نَمَطٍ معين في اللباس والمظهر والسلوك والثقافة.

من هنا، ليس غريبا أن تواجه دولة «حماس أباد» عصيانا مدنيا حقيقيا في دويلتها الكئيبة، تشارك فيه النخبة الاجتماعية الواعية، من أطباء ومهندسين وأكاديميين وقضاة ونقابيين وإداريين ومعلمين. لعل التجربة تصعد بوعي مجتمع عربي مسيَّس حتى النخاع، كالمجتمع الفلسطيني، لكي لا يمنح حزبا واحدا ثقته الانتخابية، حتى لو كان هذا الحزب مبرقعا بلباس ديني ومتسترا بلحية إخوانية مُشَذَّبة.

لن أتحدث طويلا عن لبنان. هنا أيضا مواجهة بين ميليشيا الطائفة المسلحة ودولة الطوائف التي لا يملك جيشها سوى أن يكون «محايدا»، أو مضطرا لمسايرة ميليشيا الطائفة، والدخول معها في استراتيجية دفاعية مشتركة. أكتفي بسؤال السادة المتحاورين الاستراتيجيين الكبار: ألن تلزم هذه الاستراتيجية لبنان بخوض حرب حزب الله جنبا إلى جنب مع حزب إيران ضد أميركا واسرائيل، حرب لا تفيد لبنان، ولا تراعي بالضرورة مصالح العرب الاستراتيجية؟

ساهم نظام صدام في تعميق شروخ فسيفساء المزهرية العراقية الرقيقة. ضعف ثقافة صدام ورؤيته العشيرية الضيقة أَلَّبَتَا الشيعة على السنة. لاحت النهاية عندما تمردت عليه عشائر الجبور والدليمي السنية، وعشائر الشيعة العربية في الجنوب.

ارتكب الأميركيون حماقة نظام صدام. سرحوا الجيش العراقي، فَغَرَّبوا عنهم عشرات ألوف الجنود والضباط السنة. انضم هؤلاء إلى المقاومة، لكن العشيرة ما لبثت أن دخلت في صراع مع ميليشيا «القاعدة». دين الله يسر. لم تتحمل العشيرة السنية، على الرغم من إيمانها العفوي العميق، كآبة وفظاظة وقسوة إمارة «القاعدة» وإمعانها في قتل العراقيين سنة وشيعة.

لم تُعرف بعد تماما ملابسات الحلف بين أميركا والعشيرة السنية. لكن قوات العشيرة (مجالس الصحوة) غيرت مجرى الحرب. اعترف كبار العسكريين الأميركيين بأن هذه القوات، وليست التعزيزات التي أرسلها بوش، هي التي كفلت تحييد زخم «القاعدة» وهزيمتها، وفرض تهدئة أمنية نسبية.

مرة أخرى، يثبت نظام ابن لادن التكفيري عدم أهليته لحكم المجتمع العربي والإسلامي. لا قدرة له على التكيف مع العصر ومتطلبات الحياة اليومية في تعقيداتها الحداثية. غير ان قوات العشيرة العراقية السنية تقف اليوم على مفترق صعب. فقد غدرت بها أميركا، تماما كما فعلت مع «القاعديين» في أفغانستان، ها هي تسلم نصف قوات الصحوة (54 ألف مجند) إلى النظام الشيعي مع محافظة الأنبار السنية.

يقول أحد قادة الصحوة الشيخ صلاح العكيدي عن الأميركيين:«لقد باعونا». العشيرة اليوم خائفة من ميليشيات النظام المخترقة للشرطة والجيش. على الرغم من تطمينات حكومة المالكي، بعد تردد طويل ضَمُّ بعض قوات الصحوة إلى القوات المسلحة، قد يكشفها أمام عملاء إيران الذين اغتالوا عشرات من زعماء العشائر، بالمشاركة مع ميليشيا «القاعدة». بعض الضحايا كانوا ضباطا كبارا في الجيش العراقي. آخر الضحايا كان المقدم الطيار المتقاعد فؤاد الدوري أحد قادة الصحوة، ومن دعاة المصالحة الوطنية بين السنة والشيعة.

الأردن أيضا مجتمع عشيري. الدولة الأردنية قامت أساسا على الحلف بين الأسرة الهاشمية والعشائر الأردنية. الملك المتزوج من شابة فلسطينية يرعى الوحدة الوطنية بين مجتمع العشيرة والمجتمع الفلسطيني الذي نزح إلى الضفة الشرقية (الأردن) بعد النكبة والنكسة. هنا أيضا، نشب صراع مؤسف عندما حاولت الميليشيات الفلسطينية تحدي نظام العشيرة في أوائل السبعينات.