ومازال سوق الوهم قائما

TT

في أيام معدودة يتفجر الإرهاب الأصولي في باكستان واليمن وموريتانيا، ليذكر من كان ناسيا، وينبه من كان غافلا، فالحرب مازالت على أشدها، وما جرى في السنتين الأخيرتين من هدوء حذر ـ باستعارة لغة الحرب الأهلية اللبنانية ـ لم يكن من الرشد والحزم أن يعتبر إيذانا بانتهاء المعركة أو حتى قرب ذلك.

لكل ساحة ملابساتها الخاصة، ففي باكستان ضربت القاعدة فندقا مهما وقتلت العشرات، وكان عنوان القاعدة هذه المرة مجموعة طالبان الباكستانية، والذريعة هي الانتقام لعمليات الجيش الباكستاني في مناطق إيواء القاعدة القبلية، وفي اليمن ضربت القاعدة السفارة الأمريكية لتقتل الكثير من اليمنيين العاديين، ومنهم ـ ويا للمفارقة ـ فتاة أمريكية يمنية، قريبة لجابر البنا، احد رموز القاعدة في اليمن، قدمت اليمن من أمريكا حتى تتم خطبتها! وكانت الحجة المطالبة بإطلاق سراح من اعتقل من عناصر وقيادات القاعدة على يد الأمن اليمني، وفي موريتانيا تم ذبح 11 جنديا في الصحراء على يد القاعدة، انتقاما من الأمن الموريتاني.

تذكروا أن هناك من كان يقول إن الإرهاب هو تمثيلية أمريكية إمبريالية لإلهاء الشعوب وضرب الإسلام كله، وان الموضوع انتهى بفضل براعة المواجهة الأمنية، وأن الشعوب الإسلامية والعربية قد تبين لها حقيقة هذه الخديعة وهي ليست مسؤولة عن خطايا الإرهابيين، وانه يجب أن «لا نضخم» من مشكلة الإرهاب وسندها الفكري والثقافي، لان هذا هو ما يريده منا الأمريكان وأعداء الإسلام حتى نشعر بالذنب ونتخلى عن هويتنا .. الخ.

كان يقال لنا هذا الكلام، خصوصا في السنتين الأخيرتين، وأن المسرحية انتهت و«خلصنا» وأمريكا لم تعد قادرة على إكمال هذه المسرحية، لكن ها نحن نرى القاعدة والعنف الديني يضرب بكل شراسة، ليس في الأيام القليلة الماضية، بل طيلة الشهور الماضية في الجزائر والعراق وأفغانستان، لكن وتيرة هذه العمليات كانت متباعدة، عكس ما جرى عقب 11 سبتمبر 2001، والوهم الذي وقع فيه دعاة التهوين أو أبناء نظرية المسرحية الأمريكية الإرهابية هو أن القاعدة، ولنقل العنف الديني، لم تتوقف أبدا عن المحاولة والتجنيد والتحريض، ما جرى هو أن العالم تيقظ لخطرهم وضيق عليهم الخناق، وكثف من التعاون الأمني ضدهم، وحتى سوريا وربما إيران أصبحت تتعاون ضدهم بشكل او بآخر، حسب اتجاه الريح السياسية، لكن في المقابل فالقاعدة وتفرعاتها وشبيهاتها، هي أيضا طورت من أساليبها، مثل الفيروس الذي يكتشف نوعية الدواء فيغير من طبيعته، وعلى سبيل المثال فإن أسلوب التواصل بين أفراد ومناصري القاعدة على الانترنت تطور كثيرا، كما يشار لتوصلهم إلى تعريب تقنيات عالية جدا في تضليل الكشف عن سبل التواصل بينهم.

الوهم الذي وقع فيه دعاة التهوين من خطر «الفكر» الإرهابي أو مشكلة الإرهاب بشكل عام هو الدعة والنوم في فراش الأمن الوثير، لكن هذا الفراش الأمني الذي يرقد عليه المجتمع، يقوم على جهد وعرق وتوتر هو قوام الملاحقات المتتالية لأجهزة الامن، ملاحقات لا تغفل لحظة واحدة، لأن أي غفلة قد ينفذ منها انتحاري يقود شاحنة تلد الموت والخراب والهلع.

هل شعوبنا مقصرة في مواجهة الإرهاب؟ الحق أن السؤال يجب أن يذهب أبعد من ذلك ويكون: هل الشعوب العربية والإسلامية «مهيأة» لمواجهة الفكر الديني المتعصب؟ لأن التعصب الديني هو الذي يمهد لولادة الإرهابي الديني، فهي مقدمة لنتيجة، فكل إرهابي هو بالضرورة متعصب ديني، من غير أن يلزم من هذا أن يكون كل متعصب إرهابي.

هناك ارتخاء وتخاذل في تفكيك ذهنية التعصب الديني، وهناك حذر شديد في أي مقاربة نقدية لخطاب التعصب، لأن ذلك يفتح صندوق الاسئلة المخيف، صندوق لايحتمل العقل ولا الشعور الجمعي وطأة انفتاحه.

في دراسة نشرت مؤخرا في واشنطن، صادرة عن معهد بيو للأبحاث، ظهرت نتائج واعدة بتدني نسبة المسلمين الذين يؤيدون العمليات الانتحارية خلال السنوات الست الأخيرة وكذلك ثقتهم بأسامة بن لادن، غير أنه يجب أن لا نفرح بذلك ونعتبره دليلا على انبعاث وعي نقدي جديد ضد القاعدة وفكرها، يجب أن لا نستخلص خلاصات مضللة من أمثال هذه الاستطلاعات، التي تتأثر بظروف مرحلية عابرة، وبطريقة صياغة السؤال، كما أنه لا اعتقد أن عاقلا يقول بأن المجتمعات العربية والإسلامية يسرها أن ترى التفجيرات والاغتيالات التي تقوم بها القاعدة تتفشى في مدن وبلدات هذه المجتمعات، فالناس في نهاية الأمر تريد عيشا آمنا، ومن هذه الزاوية افهم أن الأغلبية قد انفضت عن أسامة بن لادن والقاعدة، ولكن السؤال هل هو انفضاض عن فكر التعصب والإرهاب أم هو انفضاض عن تبعات ونتائج ما تقوم به القاعدة؟ أهمية هذا التفريق في نظري انه يضع حدا فاصلا فيما يخص ترك تشجيع المتعصبين والإرهابيين: هل هو مؤقت أم دائم؟

البعض يؤيد القاعدة من باب إغاظة حكومة بلده أو إغاظة أمريكا أو مجرد إعجاب بنموذج البطل «الإسلامي» بسبب ماغذيت به عقول الكثير، هذا البطل الذي يتمثل في صورة المجاهد الذي يقارع «الكفار» ويرهبهم، ولو أن أسامة بن لادن لم ينفذ رجاله عمليات التفجير والقتل في المدن الإسلامية، لربما توج اليوم في قلوب الكثيرين «خليفة» للمسلمين وصلاح دين جديد! هذه هي الحقيقة المرة، وهي التي تقود إلى تجاوز لحظة القاعدة الحالية باتجاه سبر أعماق أعماقنا النفسية والفكرية.

مارس مثقفون عرب، ولن أتحدث عن الإسلاميين، تضليلا للمتلقي العربي من خلال التهوين من شأن الأزمة الفكرية التي تعيشها المجتمعات الإسلامية، وشرقوا وغربوا في نظريات المؤامرة حتى يقزموا من خطر الفكر، ويركزوا على تجيير طاقات التحريك والخض الذي تحدثه أفعال القاعدة، تجييرها باتجاه طواحين الجدل السياسي بين الحكومات والمعارضات العربية والإسلامية، وان ما يجري من إرهاب ليس الا نتاج غياب الديمقراطية، ورغم ان حلم الاحلام لدى كل إنسان محب للحرية، هو أن تسود الديمقراطية الصلبة المبنية على أساس دائم، إلا أن الإصرار على ربط الإرهاب بغياب الديمقراطية ليس إلا نوعا من المماحكة مع الأنظمة العربية، لأن الإرهاب الديني يشتغل بمحركات أخرى، ليس منها محرك الديمقراطية، فهم هم ألد أعدائها، ويقولون ذلك صراحة، ولكن مثقفينا المحترمين لا يرغبون في الإصغاء إليهم، ويريدون ان ينطقوهم بما لم ينطقوه!

قليل من المثقفين من انتبه الى وهم هذا الربط بين مشكلة الديمقراطية ومشكلة القاعدة ومن هؤلاء القلة الباحث السياسي في المعهد الأمريكي، كارنيجي للسلام، عمرو حمزاوي، فقد كتب الرجل في لحظة تجل: «بصراحة شديدة، تورطت تلفزيونياً في بعض الأحيان في مسايرة ديماغوجية للاتجاهات الغالبة في الرأي العام العربي بالرغم من تحفظاتي عليها وحقيقة اضطراب أفكاري حولها. فقسوت على الغرب ولعنت مطامع الأميركيين والأوروبيين في عالمنا واختزلت سياستهم في ركض مستمر وراء المطامع هذه». وأقر بأنه لم يلتفت: «طويلاً لطبيعة المعارضات، إسلامية كانت أو ليبرالية ويسارية، ولبناها التنظيمية وممارساتها على أرض الواقع ومدى قربها أو بعدها عن الجوهر». الديمقراطي (صحيفة الحياة 18 الجاري)..

لكن في الجانب الغالب نرى نماذج تبرئة الذات والضجر من الجرعات النقدية «الخفيفة» التي وجهت لخطابنا المتعصب، والذي ـ على كل حال ـ لم تضره تلك الجرعات ولم تنفعه أيضا! نجد احد هؤلاء وكأنه اكتشف العجلة من جديد يذكر أن الجميع غفل عن كتاب «إدارة التوحش» الذي أعلنت السلطات الأمنية السعودية مؤخرا أنها عثرت عليه مع عناصر القاعدة، لأن هذا الكتاب كما يلمح الكاتب يستحيل ان يكون من تأليف القاعدة بل هو من صنع الغرف الاستخبارية الامريكية وهو ما يرسخ أن واشنطن دعمت هؤلاء الشباب إبان الجهاد ضد الغزو السوفياتي لأفغانستان، وتعرفت عليهم جيداً، فوجدت فيهم وسيلة لتحقيق أطماعها، وفتح الأبواب للأحداث الجارية، ثم وضعت لهم دستوراً للتوحش، ينطوي على عنف متوحش ويحتاج إلى عنف همجي مضاد، وهو ما تقوم به أميركا الآن في أفغانستان والعراق!

تحليل عجيب. ويعني أن لا نكلف أنفسنا بـ«شتم الإرهاب»، حسب تبسيط البعض لنقد الارهاب وفكره، بل باكتشاف الأصابع الأمريكية الخفية التي الفت كتاب إدارة التوحش ودفعت به عنوة في أيدي الشباب القاعديين... وكأن هذا الكتاب هو أول كتاب للقاعدة وناشطيها يتحدث عن خطط الإعداد للقتال والتحضير للمواجهة ورسم السبيل الحركي والميداني، وكأن ابو مصعب السوري، وعبد القادر عبد العزيز لم يؤلفا كتابي: التجربة السورية، والعمدة في إعداد العدة، وهما أهم بكثير من إدارة التوحش؟

حاصل القول إن ما تفعله القاعدة وما ستفعله، ليس نتاج فقدان الديمقراطية في العالم الإسلامي او نتاج خطة أمريكية بالغة السرية والغموض لتحقيق أهداف معينة، لا ندري ما هي بالضبط! ما تفعله القاعدة وما ستفعله، هو منتج فكري في المقام الأول، وليس الوحيد، منتج فكري لم يواجه بمنتج مضاد يقاومه ويزاحمه على عقول وقلوب الناس، يقاوم بقوة وديمومة كما تفعل القاعدة، ولكن بسلاح الكلمة أولا، والكلمة آخرا.