البابا أمام المثقفين الفرنسيين

TT

قبل أن تطأ قدما البابا الأرض الفرنسية في مطار أورلي، صرح للصحافيين بأن العلمانية لا تتناقض مع الإيمان، وأن الإيمان ليس سياسياً، والسياسة ليست ديناً. ثم قال: أحب فرنسا، أحب الثقافة الفرنسية العظيمة. واستشهد بعدئذ بعبارة الإنجيل الشهيرة: ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.

وكل هذه التصريحات هدفها واضح: قطع الطريق على العلمانيين الفرنسيين الأشداء الذين يتربصون به ويراقبون كل حركاته وسكناته لكي يردوا عليه بالصاع صاعين إذا ما تجاوز حدوده.

ولم يكن الرئيس ساركوزي بأقل ذكاء ودهاء منه. فبمجرد أن صافحه واستقبله على أرض المطار صرح قائلا: أحترم كل الأديان، وأعرف الأخطاء التي ارتكبتها على مدار التاريخ. لكن الإنصاف والأمانة يقتضيان مني الاعتراف بالدور الذي لعبته في تهذيب البشرية. وهذا لا يقلل إطلاقاً من أهمية الدور الذي لعبته التيارات الفكرية الأخرى غير الدينية. والمقصود هنا فلسفة التنوير بشكل خاص لكي يرضي المعسكر العلماني ويقطع عليه الطريق أيضاً.

وإذن فكلا الرجلين أخذ احتياطاته منذ البداية. ومع ذلك فإن المعسكر العلماني ظل حذراً، ومتخوفاً من هذه المظاهر الاستعراضية للدين والتي لم تعد معهودة في بلاد فولتير منذ زمن طويل. فالبعض يشك في نوايا الرئيس ويتهمه بالإعجاب بالنموذج الأميركي المتدين أكثر بكثير من النموذج الفرنسي. لكن هل يستطيع ساركوزي، على فرض أنه يريد ذلك، أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء؟ هل يمكنه أن يعيد فرنسا إلى المسيحية بعد أن خرجت منها عام 1905: تاريخ فصل الكنيسة عن الدولة؟ مستحيل. وذلك لأسباب عديدة، منها أن عدد المؤمنين بالمسيحية أو المتدينين الذين يؤدون الطقوس والشعائر لم يعد يتجاوز 8%، ومعظمهم من العجائز.. والكنيسة المسيحية لم تعد تجد أشخاصاً جدداً للانخراط في سلك الكهنوت بما فيه الكفاية. والأزمة متفاقمة. وبالتالي فعن أي خطر يتحدثون؟ هذا وهْم. يضاف إلى ذلك أن الرئيس تجرأ على التحدث عن الأخطاء التي ارتكبت باسم الأديان أمام الباب شخصياً. وقد فعل ذلك متعمداً لكيلا يُتهم بأنه خائف منه أو يحابيه أكثر من اللزوم. ثم انه تحدث عن الأديان بصيغة الجمع لا الدين بصيغة المفرد لكي يشمل جميع الأديان الموجودة على الساحة الفرنسية وليس فقط المسيحية. فهو يفكر أيضاً بالإسلام، واليهودية، والبوذية. ثم زاد فتحدث عن دور التيارات الفلسفية غير الدينية في تشكيل الحضارة. وبالتالي فلا أعرف أين هي أصولية ساركوزي؟ بل انه عندما تحدث عن الأخطاء التي ارتكبت باسم الأديان كان يقصد بالدرجة الأولى المسيحية وبالأخص المذهب الكاثوليكي، الذي يتزعمه البابا. ومعلوم أن إحدى النواقص الكبرى لمحاضرة هذا الأخير في جامعة ريجبنسبورغ التي أقامت الدنيا وأقعدتها، هو أنه نسي العنف الذي ارتكب باسم المسيحية ولم يركز إلا على العنف الذي ارتكب باسم الإسلام. هذا ما حاولت توضيحه في البرنامج التلفزيوني المعروف «وجها لوجه» على شاشة التلفزيون الفرنسي، القسم العربي.. وقلت بأنه كان على البابا أن يذكر الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش والحروب المذهبية الكاثوليكية البروتستانتية ومحاكمة غاليليو ومقاومة الأفكار العلمية والفلسفية الحديثة لكي يكون كلامه متوازنا وعادلا. فالعنف ليس مرتبطاً بدين واحد فقط وإن كان الآن يمارس للأسف من قِبل الفئة الضالة عند المسلمين.

لكن يبقى صحيحاً القول بأن المسيحية تجاوزت مسألة العنف أو قل حلّتها بعد أن قدمت تأويلا مستنيرا لرسالتها وبعد أن تطورت المجتمعات الأوروبية اقتصادياً وهضمت عشرات الثورات الفلسفية والعلمية والسياسية. وهذا الشيء لم يحصل حتى الآن في العالم الإسلامي. لذلك فإن التأويل الانغلاقي للمتطرفين الظلاميين لا يزال هو السائد. لكن هذه مرحلة عويصة ستنتهي إن شاء الله قريباً بعد أن ينتصر التنوير العربي الإسلامي.

نلاحظ أن البابا ركز في محاضرته القيمة أمام الشخصيات السياسية والثقافية الفرنسية على موضوعه المفضل: أي العلاقة بين العقل والإيمان، أو الفلسفة والدين. ولاحظنا وجود الرئيسين السابقين جاك شيراك وجيسكار ديستان في مقدمة الصفوف الأمامية التي استمعت بكل انتباه واحترام لمحاضرة البابا. ولحُسن الحظ فإن وزيرة الثقافة الحسناء كانت تفصل بينهما لكيلا يحصل أي اشتباك بعد نصف قرن من عدم الإعجاب والكره المتبادل.

لقد ركز البابا على فكرته الأساسية: وهي ان مجتمعات الغرب مهددة بالنسبويّة الأخلاقية، أي بالعدمية. بمعنى أن كل شيء يتساوى مع كل شيء، ولا شيء أفضل من شيء، وكل شيء مباح في نهاية المطاف. وهذا تيار خطر قد يؤدي إلى انهيار الحضارة الأوروبية وفقدان النسل وتقويض العائلة. وقال بأن الفلسفة الوضعية أو المادية البحتة لا تكفي، إنما تلزمنا روح الإيمان أيضاً والتعالي الرباني، فهو قمة القيم. ولا ريب في أن موقف البابا وجيه وله مشروعيته بعد أن تطرفت الحضارة الغربية في اتجاه الشهوات والمتع الحسية والملذات. لكن لا ينبغي أن يتطرف هو الآخر أيضاً في الاتجاه المعاكس.

لا أعرف لماذا يذكّرني كلامه أحياناً بكلام والدي الذي كان يوصيني بتقوى الله وأنا ذاهب إلى فرنسا بلد الإغراءات والجنس اللطيف الذي تستعصي مقاومته حتى على الصخر الجلمود!