على المكشوف

TT

كثيرون ممن كان لا يعنيهم كثيرا ما يحدث في دهاليز الاسواق المالية العالمية أصبحوا مهتمين ويلهثون وراء فهم وملاحقة الكثير من التعبيرات والمصطلحات التي فوجئوا بها وكأنها قادمة من كوكب آخر، في حين انها كانت ممارسات عادية وتحدث كل يوم وهي جزء من النظام الاقتصادي والمالي الدولي.

وفجاة أصبح ما يفعله الوسطاء الماليون من معاملات قصيرة الأجل للبيع المكشوف مثار اهتمام بعد أن وضعوا في دائرة الضوء، وأصبحوا لدى الرأي العام «شياطين» السوق، بسبب تعاملاتهم ورهاناتهم بعد ان حملوا المسؤولية بأنهم وراء الأزمة غير المسبوقة التي ضربت المصارف والمؤسسات المالية الدولية، والتي ستحتاج الى خطط إنقاذ مالية بأحجام لم يسمع بها من قبل، مثل ما ستفعله الادارة الاميركية التي ستضع ما يقرب من ألف مليار دولار لتطهير النظام المالي.

وقد كانت ممتعة متابعة الجدل الدائر في عواصم مالية دولية حول «شياطين» السوق هؤلاء، خاصة انه تم منع مضارباتهم على اسهم الشركات المالية في اميركا وبريطانيا لفترة محددة، وهم ببساطة مجموعة من الصناديق والمتعاملين يتربحون من ضعف الآخرين، فهم يتنبأون بأن وضع اسهم هذه المؤسسة او تلك ضعيف، وبالتالي يراهنون على هبوطها، ويقومون باقتراض أسهم من أصحابها لفترة محددة قصيرة بتعهد بإرجاعها لهم بعد هذه الفترة، ثم يبيعون هذه الاسهم على أمل انها ستنخفض، ثم يشترونها مجددا بعد انخفاضها ليعيدوها الى اصحابها الأصليين بعد ان يجنوا الفارق بين سعر البيع والشراء، بينما المالك الاصلي لم يخسر شيئا فأسهمه عادت وعليها فائدة، وعادة ما يكون هؤلاء حملة اسهم استراتيجيين يحتفظون بها لفترات طويلة. وقد كان رد هؤلاء على الحملة عليهم، ان ليست اصلا فيهم، ولكن في المصارف والمؤسسات التي توجد بقع او خروق في دفاترها وتحاول تجميلها. وهم يقرأون او يكتشفون نقط الضعف هذه ويعلنون انهم سيبيعونها على المكشوف، وبالتالي فانهم يقدمون خدمة للسوق وحتى لهذه المؤسسات حتى تصحح نفسها او تنهار.

وفي هذا الكلام قدر كبير من المنطق، لكن في نفس الوقت فان تحركات بأموال ضخمة ضد مؤسسات معينة يفقدها اتزانها، وعندما تكون التحركات ضد قطاع معين مثل القطاع المالي، فإن الانهيار يجرف معه كل شيء ويؤثر على الاقتصاد كله، فإذا كانت السوق المالية تتمتع بما يشبه الديمقراطية المالية لانها تصوت كل يوم من خلال تداولاتها على صحة الشركات المساهمة المتداولة، برفع او خفض اسعارها، وهو امر صحي وهام، فان كل شيء له ضوابطه من اجل المصلحة العامة.

وهذا ما بدأت الحكومات المعنية تفكر فيه بعد الازمة غير المسبوقة، والتي لا يعرف احد عواقبها او ما الذي ستجرفه معها فيه، فهناك افكار مطروحة حاليا خاصة من جانب الحكومة البريطانية لرقابة دولية مشتركة اكبر على حركة الاسواق المالية وانتشار جهاز اشرافي دولي تابع لصندوق النقد الدولي، على اعتبار ان تصحيح الوضع يحتاج الى جهد دولي مشترك ولا ينفع فيه جهد دولة واحد.

وهذا صحيح الى حد كبير، فحركة الاموال والاسواق لا تعترف بحدود او جغرافيا الآن، فالناس تشتري في هونج كونج صباحا لتبيع في اسواق اوروبا عندما تبدأ اسواق اسيا في النوم، ليتوجهوا بعد ذلك الى سوق نيويورك، بينما تكون اوروبا تستعد لنهاية يوم العمل، وكمية الاموال التي تتحرك في ثوان تفوق احجام اقتصادات عشرات الدول خاصة من جانب صناديق التحوط التي يسميها البعض حكام العالم الحقيقيين.

لذلك فان إعادة التنظيم مطلوبة، وايجاد وسائل رقابية جديدة تتناسب مع درجة التطور والتعقد الذي وصلت اليه الاسواق المالية أمر ملح لحماية الاقتصاد العالمي خاصة عندما يهدد الخطر وظائف ولقمة عيش الناس، لكن من الخطأ تصور، كما يحاول البعض الان الترويج، ان الحل هو في العودة الى سياسات بالية ثبت فشلها في الماضي، مثل الانعزالية، واغلاق الاسواق، وهيمنة الدولة على كل شيء، فقد استفاد العالم بدرجة كبيرة من هذه الديمقراطية المالية، ووجدت الكثير من الدول ما تحتاجه من التمويل من السوق مباشرة وباسعار ارخص من مؤسسات مثل الصندوق الدولي وبدون شروط سياسية لفترة طويلة، فما يحدث رغم صعوبته هو كأي شيء يصل الى درجة معينة من التعقد والتطور يحتاج الى اساليب وادوات جديدة لمراقبته وتنظيمه وليس قتله.