3 عقود من العطاء.. ليس مصادفة

TT

في أصيلة، وبالضبط في موسمها الثقافي الدولي الثلاثين، كانت جريدة «الشرق الأوسط»، جنبا إلى جنب مع مؤسسة منتدى أصيلة، تطفئان معا شمعتهما الثلاثين في ندوة «الإعلام في القرن الواحد والعشرين»، تعلو سحنتهما معاً ألق فرحة الاستمرار والبقاء، وتختال كلماتهما نشوانة ولهانة فواحة بعطر الانتصار والعطاء. مصادفة عجيبة أن يكونا معاً على منبر واحد بعد مسيرة ثلاثين سنة خلت، يقفان عند مناقبهما ومثالبهما، ويرقبان عن قرب حلمهما وقد كبر، وصار فتى ناضجاً يافعاً، في كامل فحولته، لكن ما لا يعد مصادفة أن يستمرا معا بمثل هذا الدفق والحياة والصفاء، فهذه الاستمرارية ليست مصادفة، لم تتأت لولا نفسهما الجدي والمتجدد الذي ظل يبصر أبعد من عتبة داره الضيقة، وفي بحث دائم عن ضوء يضيء أغوارنا المتوجسة التائهة، عوض التقوقع في كهف مظلم أحادي الرأي. لم يكن ليستمرا معا لولا رصانتهما واعتدالهما، وحوارهما المنفتح وفضاؤهما الحر التواق للسجال والاستكشاف والتقصي، لولا مسيرتهما الواثقة الخطو، والتي تتفادى بضراوة كل حماسة وخطاب فضفاض، وتسكين للهدوء والتروي والحكمة والتوازن السياسي المعرفي والفكري، وخصوصا في القضايا الخلافية والحساسة.

يقال إنه كلما ابتعد الإنسان عن مكان ما، اتضحت رؤيته وتعمقت علاقته به، تصبح علاقة أكثر شفافية وحيادية، بعيدا عن كل تشويش يمكن أن يضعف من عمق رؤيته لها، هكذا هي جريدة «الشرق الأوسط»، فإقامتها في لندن، جعلها في قلب الأحداث، وأكثر قربا من الإنسان العربي بكل قضاياه وأزماته وأفراحه وأتراحه، بل كانت دائما وأبدا مثل حشرجة البارود في وجه كل زيف وفساد بكل أنواعه، لم تدع يوما فروسية تترك وراءها سحابة من غبار فقط، بل أبانت في خطها التحريري العام عن جرأة وشجاعة قل نظيرهما، وأثبتت للعالم أن هناك طرقا أخرى للتحليل والمناقشة وإبداء الرأي والحق في الاختلاف بعيدا عن كل جاهزية ونمطية.

ظهر صوت «الشرق الأوسط» في زمن الانجذاب للإعلام الفضائحي المثير، وفي زمن الاستخفاف بالعقول وتبخيس الإنسان العربي، لتعيد الاعتبار لإنسانية الإنسان، وفي زمن تعرضت فيه لغتنا وأمتنا وتاريخنا وهويتنا لمعاول المغرضين باسم الإسلام تارة وباسم تجديد الهويات تارة أخرى، لتكون صوتا نابضا بعروبتنا وهويتنا وقيمنا الحضارية الثابتة، ظهرت في زمن النعرات العرقية واللغوية والدينية، لتكون صوتا موحدا يلم شتات العراقي واليمني والجزائري والمغربي واللبناني...، ولتكون بحق جريدة لكل العرب.

ما أحوجنا إلى مثل هذا الصرح الإعلامي المتنور في زمن اتسع فيه الخرق على الراتق، واختلط الحابل بالنابل، وغدا فيه الإسلام رديفا للدماء, والديمقراطية رديفا للتدخل الأمريكي في شؤوننا العربية، وحقوق الإنسان، رديفا لمعتقلات غوانتانامو وغيره من السجون السرية، كي تعيد الأمور إلى نصابها وترسخ المصداقية والشفافية في حياة إعلامية عربية شوهتها بعض المنابر الإعلامية سواء الورقية أو الالكترونية، وجرحت بهاءها وصفاءها بندوب الكذب والزيف، وعملت على تهييج وتحريض الرأي العام عوض الكشف عن الحقائق بنزاهة ووضوح وموضوعية، وعوض أن تفتح للشباب العربي متنفسا رحبا من تحث الحطام الجاثم. ومسار مؤسسة منتدى أصيلة لا يختلف كثيرا عن مسار «الشرق الأوسط»، هو مسار ما كان له أن يستمر ويتحقق له هذا التألق الثقافي والإشعاع الحضاري، لولا مراهنته على الخطاب الحر المنفتح المتجدد الليبرالي الحداثي، ولكونه يطرح أسئلته وأفكاره من نبض الواقع السياسي والثقافي والفكري الآني العربي والعالمي، لم يتعبه الترحال الشاق والثري، ولم تعقه اهواله وأعاصيره، بل في سفره. يقف محمد بن عيسى أمين عام مؤسسة منتدى، ابن المدينة، ورئيس بلديتها، ليغرف فيض الصفاء والبهاء والنظارة من وجوه «الزيلاشيين»، كي يقوى على الصمود والمقاومة في مساره الثقافي والفكري، مشحونا بالأمل والتحدي والإصرار، مجللا بالحلم، الحلم بأن يصنع من يباب «أصيلة» سابقاً، حقولا دانيات القطاف، تزهر اليوم فكرا وموسيقى وتشكيلا ومسرحا وشعرا.. في موسمها الثقافي الدولي.

حلم لم يبق مهيض الجناح، بل حلق في العالم أسره بأجنحة فولاذية، ليحكي حكاية بلدة، ظلت لزمن يغشاها الصمت، إلى أن استفاقت من سباتها، ليس بقبلة أمير كما تحكي حكاية الأطفال، بل بالجهد والصدق والدبلوماسية والحكمة والنضج وثراء الموهبة والعشق لكل ما هو راق وعميق ومتجدد في حياتنا، وبإصرارها على غسل أرواحنا من قذارة العالم المادي، وتشكيل ذهنيات ووعي الإنسان المغربي والعربي بأفكار متنورة وطروحات رصينة وبقيم الفن والجمال والأخلاق والسياسة والحرية والعقل.

جرائد كثيرة تناسلت كالفطر في الساحة الإعلامية العربية، ومهرجانات كثيرة أينعت في مدن عربية، توفر لها الدعم المادي الذي يبدو عكازا أساسيا تستند إليه أية جريدة أو مجلة أو مهرجان، لكن يخطئ من يظن أن المال وحده كافياً لاستمرار هذه الجرائد أو المهرجانات، وتجذرها في التربة الإعلامية والثقافية العربية، ما يضمن لها البقاء والديمومة، طبيعة المبادئ والثوابت التي ترتكز عليها، ومدى المصداقية والشفافية التي ترتضيها لمسارها، ومدى وعي وحكمة ونضج القائمين بأمرها، والأهم من هذا كله أن تضع ضمن أولوياتها فعل تغيير وتجديد الفكر الإنساني والحفاظ على مقوماتنا وثوابتنا الحضارية مع ضرورة الانفتاح على الآخر في عالم العنف والصراع والإقصاء، والعمل بنضال وصرامة للرقي بالإنسان العربي واستعادة إنسانيته المستلبة وإنقاذه من دوامة الآلة الاستهلاكية التي أتت على الأخضر واليابس من زمننا العربي.

* كاتبة من المغرب