كيف غدت أم العباية انتحارية..!

TT

ليس غريباً أن تكون المرأة مقاتلة، وفدائية، وما أكثر الفدائيات الفيتناميات والفلسطينيات، والعراقيات النصيرات في حرب الأنصار، بين جبال ووديان كوردستان العراق، حملنَّ السلاح، ومن هنَّ سقطنَ في سوح القتال. وما زلنَ أعضاء حزب العمال الكوردستاني التركي يحملنَ السلاح في الأراضي العراقية، ولعلَّ أحزاب اليسار الأكثر أو الأميل لاستيعاب المجندات النساء في حرب العصابات، ولا أظن الأمر له علاقة بغلظة العاطفة لديهنَ عن سواهنَّ، بقدر ما له صلة بانفتاح هذه الأحزاب، سواء كان في التنظيمات أو ساحات المعارك، فالمساواة، التي تبشر فيها تلك الأحزاب، لا تقبل التجزئة.

لكن الغريب أن تصبح المرأة، حسب رؤية القوى الدينية المتطرفة، انتحارية، ونراها، إن ثبت الانتحاريات العراقيات من تنظيم القاعدة أو بقية فروع المقاومة الدينية، تجربة ليست مسبوقة، في أن تتخلى هذه القوى المموهة باسم الدين عن وظيفة المرأة الشرعية، مثلما يثقفون لها، وهي «حُسن التبعل» إلى مساواتها في أن تكون مشروعاً انتحارياً. ولا يُعلم عن طقوس ذلك الانتحار، هل يجري له مثلما يجري للرجال أم الأمر مختلف! فالتجربة جديدة، والكل تراه مصاباً بذهول فظيع، وعاجز عن التفسير والتأويل وحتى التخمين، فما يحدث من أمر النساء الانتحاريات ضرباً من ضروب العجائب على الحقيقة لا المجاز.

نعم، تذكر لنا كتب التاريخ وتجاربه نساءً، كان فتكهنَّ أمضى من فتك الرجال دموية وبشاعة، ولديهنَّ جسارة ما قد لا تجدها لدى قادة جيوش من فئة الوحوش، حتى غدت قلوبهنَ أقسى من الصخرة الصماء، وهنَّ يقتلنَ الزوج والأخ من أجل سلطان أو أخذ ثأر. وضرب آخر وقعنَ تحت هيمنة العقائد ليحرقنَ أنفسهنَّ ديانةً أو عرفاً. حكى ابن بطوطة (ت 779هـ) حول نساء مدينة بابحري الهندية، أنه لما قُتل سبعة أنفار من أهل تلك المنطقة في حرب مع البلاد المجاورة «كان لثلاثة منهم ثلاث زوجات، فاتفقنَّ على إحراق أنفسهنَّ»(الرحلة).

والأمر، حسب مشاهدة ابن بطوطة، جرى بحكم الأعراف الاجتماعية، والتي تلبيها منهنَّ يحرز أهلها شرفاً «ومَنْ لم تحرق نفسها لبست خشن الثياب، وأقامت عند أهلها بائسة ممتهنةً لعدم وفائها»! أما انتحاريات حاضر العراق فتجد القسوة لديهنَّ مضاعفة، قتل أنفسهنَّ وغيرهنَّ بالجملة، لدوافع عدة، حشاها فقهاء الإرهاب في عقولهنَّ عزةً وديانةً. آملين ألا يغرس ذلك في الأرض، تأسيساً لحقب سُّود، وأجيال تتأبط القسوة من أول رضعة.

كثرت الأسباب والمسببات في أن تصل أحوال العراق إلى هذا الدرك من الشر، حتى غدت أم العباية الحاضنة للأمومة انتحارية تنفجر بسوق أو أمام بوابة مستوصف للطفولة. ففي ظل رعونة القسوة العسكرية الأمريكية، وفتح بوابات البلاد على مصراعيها على جهات الأرض الأربع، ومن أول يوم إعلان الحرب على الإرهاب من أرض العراق، أخذت تُخلع أبواب البيوت وغرف النوم، ويبطح الرجال أمام نساؤهم بذلة، وكثر القتل الخطأ والصواب، حتى بات لا يميز بينهما، أخذين بمبدأ الغرور وذروة القسوة المجربة بالفشل: «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا..». تلك العقلية المهددة والمتوعدة أسعرت في قلوب العديد من العراقيين شعور الثأر، الذي لابد أن قاد إلى استحداث ظواهر مثل ظاهرة الانتحاريات! الثأر لكرامة زوج، أو استباحة دار، وما أكبرهما بعين المرأة. ناهيك من مسببات، أو مساعدات أُخر: الفقر إلى حد طي البطون، والتشرد بسبب التهجير الطائفي، وفقد الأعزة في أية لحظة كانت.

إن شيوع ظاهرة الانتحاريات، من أمهات العباءات الخافقة بالحنان في الأسواق والمزارات قبل الوصول إلى هذه النتيجة المؤلمة، يعني أن العراق دخل في غيهب كهف مخيف من قسوة الإنسان والبيئة، مالت العواطف والعقول نحو العنف بأعظم صوره، لا يترك مجالاً لإصلاح في ظل سياسة مازالت تغطي ومثالبها بغربال، لا أحد يعترف بسوء تدبيره، ولا يجري الحديث إلا عن العدو المتربص، من دون سؤال الذات: لماذا غدت عباءات الأمهات والأخوات والزوجات أكياساً لحمل المتفجرات! هل هو الثأر، أم العوز، أم الجهل، أم اليأس إلى حد القبول بتزنر الخواصر النحيلات بالموت الأحمر، بدلاً من شد أحزمة الرقة! أم تشابك من تلك العوامل! ليس مقبولاً أن واحدة أو عشراً من الانتحاريات وقعنَّ تحت الإغراء، والمخدر، ولعلّه المادة التي فسرت بها كل اغتيالات «الحشاشين»، جماعة الحسن بن الصبَّاح (ت 518 هـ). السؤال الحريص لماذا يحدث ذلك؟!

لا أدري، ما يقول الجواهري في أمر الانتحاريات، وقد استكثر على بائعة السمك حمل الساطور: «جمالك والرقة المزدهاة.. خصمان للذابح الناحر»!

[email protected]