العالم على حافة الهاوية ؟!

TT

لا أدري كيف سيكون حال العالم ساعة نشر هذا المقال، ولكن حالته وقت الكتابة في صباح الجمعة الماضي كانت مقبضة للغاية حيث بدا البناء الاقتصادي العالمي على وشك الانهيار. ولم تكن العلامات ظاهرة فقط في أسواق المال التي توالت انهياراتها مع مؤسسات مالية معروفة بالمنعة والصحة بينما ترنحت مؤسسات أخرى، وإنما راحت معها في السقوط أسعار السلع والبضائع والمنتجات، وفجأة أصبحت كلمة «الكساد العالمي» كلمة مألوفة على ألسنة المعلقين، ولأول مرة منذ سقوط الاتحاد السوفيتي بات السؤال عن مصير «الرأسمالية» مطروحا. وعندما يحدث ذلك على مستوى العالم، وتصاب الدول العظمى ـ وليس فيها الآن سوى الولايات المتحدة ـ والكبرى في أوروبا وشرق آسيا بالذعر فإن الدول النامية والفقيرة لا بد لقلوبها أن تسقط بين أقدامها. ولا أدري شخصيا عما إذا كانت الحكومات والقيادات العربية مهتمة بما يجري في الدنيا وتبحث عن طريقة للتعامل معه أو أنها تنتظر ما تأتي به الأقدار النافذة وتكتفي بسؤال المولى عز وجل ألا يرد القضاء ولكن اللطف فيه.

على أي الأحوال فإن المشهد العالمي كان قاتما للغاية، ومن ناحيتي، وأرجو ألا أغضب أحدا، فقد باتت ثقتي في الاقتصاديين وعلماء الاقتصاد، وربما في علم الاقتصاد نفسه أضعف من ذي قبل. وفي عام 2002 نشرت مجلة «الشؤون الخارجية» الأمريكية مقالا لعالم مرموق تحدث فيها عن كيفية تعامل العالم مع زمن طويل من النفط الرخيص، ولم تمض شهور حتى بدأت أسعار النفط في الارتفاع حتى وصلت خلال هذا الصيف إلى 147 دولارا للبرميل. وقبل ذلك بأيام كانت المجلات العلمية والسيارة تتسابق حول الحديث عن عالم يصل فيه سعر النفط إلى 150 دولارا تارة، و200 دولارا تارة أخرى، ومن كثرة التنبؤات تصورت أن الإخوة من عرب الخليج المنتجين للنفط سوف يكون لديهم من الأموال ما يكفي لشراء العالم بعد أن تجمعت لديهم كميات من الدولارات تنافس تلك الموجودة في بكين. وقبل شهور كانت التنبؤات متصاعدة حول الأزمة العالمية للغذاء، وتصدر المجلات والنشرات صور سنابل القمح وحبات الذرة، والعلاقة بين النفط والحبوب. ولكن قبل أن ينقضي الصيف كانت أسعار الغذاء والنفط تهبط بسرعة الأعاصير التي هاجمت سواحل تاهيتي وكوبا وتكساس، ومعها أسعار العقارات والبنوك والأسواق والبورصات العالمية.

المشكلة هنا أننا إذا استبعدنا خبراء الاقتصاد بهذه السهولة فإنه لن يبقي في يدنا ما نتحدث عنه حيث أدوات «عقلنة» ما يجري محدودة للغاية. وعندما كنت في الولايات المتحدة مؤخرا حاولت أن أسأل «الخبراء» في مجالات شتي وكانت الإجابة الذائعة هي أننا ـ أي البشرية كلها ـ نواجه موقفا جديدا كل الجدة ولم نواجهه من قبل. وعندما تسمع هذه الإجابة من كثرة فإن معناها أننا لا نعرف شيئا على الإطلاق، وأن كل ما نفعله من تفكير لن يزيد أبدا عن البحث عن قطة سوداء في غرفة مظلمة. وآخر الأزمات التي عرفناها وفيها بعض الشبه بما يجري حاليا كانت منذ عقد تقريبا، أو في عام 1997 عندما حدث ما عرف بالأزمة الاقتصادية في شرق وجنوب شرق آسيا ومنها انتقلت إلى المكسيك في شمال أمريكا ثم امتدت إلى أمريكا الوسطى والجنوبية وأخيرا عصفت تماما بالاقتصاد الروسي. ومع ذلك فقد تم إنقاذ العالم، وكان السبب أولا أن مجلسا لمحافظي البنوك المركزية في الدول الكبرى نجح في إدارة الأزمة في جانبها المالي من خلال تحويل مليارات الدولارات من مكان إلى آخر، وكان الاقتصاد الأمريكي والأوروبي فيه من الصحة والعنفوان ما يكفي للتعامل مع الانحدار في الاقتصاد العالمي. وفي العموم كانت النتيجة مرضية، وبعد أقل من عامين كانت الاقتصاديات المنهارة قد انتعشت، بل وعرف بعضها مزيدا من الإصلاح الاقتصادي والديمقراطي كما جرى في إندونيسيا وتركيا على سبيل المثال، وحتى روسيا التي كان ميئوسا منها بفعل سياسات بوريس يلتسين العبثية سارت على طريق وصل بها إلى حالة تسمح لها بغزو دولة أخرى هي جورجيا ولا يزال في جيبها مزيدا من النقود السائلة!

ومن الممكن القول إن ما جرى قبل عقد قد جرى مثله في عقد السبعينيات من القرن الماضي حينما جرى فك الارتباط بين الدولار والذهب، وفي أعقاب الأزمة النفطية العالمية الأولى؛ وجرى مثله أيضا خلال الثمانينيات من ذات القرن حينما كان نمو الاقتصاد العالمي بطيئا. وفي كل مرة جرى حلت الأزمة من خلال «تخريج» دول جديدة من التخلف إلى التقدم فظهرت النمور والفهود الآسيوية خلال السبعينيات، وفي التسعينيات ظهرت الصين، ومع القرن الجديد دخلت الهند والبرازيل إلى سوق الإنتاج والاستهلاك في العالم. وإذا كان هناك «قانون» يمكن استخلاصه مما سبق فهو أن العالم كان يمر بدورات رأسمالية «معتادة» من النمو والانكماش بحيث أن الانكماش لم يتحول أبدا إلى كساد كذلك الذي جرى خلال الثلاثينات من القرن الماضي بسبب دخول أعداد هائلة من المستهلكين والمنتجين الجدد وهي في العموم نتيجة إيجابية لأنها أخرجت مئات الملايين من الفقراء إلى دائرة الستر.

ولكن الحالة في هذه المرة مختلفة لأنها تشمل العالم كله حيث لم تستثن أيا من بورصات العالم من الانخفاضات الحادة؛ ولا يوجد من بين دول العالم من هو على استعداد «للتخرج» من الفقر إلى الغنى بحيث يستوعب الفائض من الإنتاج العالمي. وخلال العقدين الماضيين كانت الصين والهند تمثلان الاحتياطي الاستراتيجي العالمي حيث توجد الملايين بلا حصر، ولكن حتى هاتين الدولتين أصبحتا تعانيان من «إرهاق» التنمية حيث النمو السريع يخلق ضغوطا تضخمية تضغط على الطبقات الوسطى، وحيث الحراك الاجتماعي يؤجج الفوارق الطبقية والصراعات الاجتماعية وينفخ في صور متعددة للفساد. وفي العادة كانت الولايات المتحدة هي القائدة التي تخرج منها الأفكار مع الأموال أحيانا لكي يتم الخروج من المأزق العالمي؛ ولكن واشنطن هذه المرة ليست مستعدة استعدادا كبيرا لأنها تمر في مرحلة انتخابات، ولأن قيادتها لا يوجد لديها أي قدر من التأييد لدي المواطن الأمريكي، والأخطر من ذلك كله أن بعضا من حلول الموقف الراهن تقوم على تدخل الدولة الأمريكية من خلال إدارة جمهورية محافظة أقامت سياستها وفلسفتها ونصائحها للآخرين على سحب الدولة من المجال العام.

إنها حقا حالة فريدة حيث يظهر المأزق العالمي ولا يتوفر بسرعة طريقة أو أخرى للخروج منه. وفي القرن التاسع عشر ومع أول نضوج للرأسمالية مع الثورة الصناعية الأولى كان التوسع الاستعماري أول وسائل حل تناقضاتها بحثا عن الموارد والأسواق وتقسيم النفوذ بين إمبراطوريات وممالك سبقت غيرها في التكنولوجيا والتقدم. وعندما صعدت الرأسمالية والتكنولوجيا أكثر نحو الثورة الصناعية الثانية كانت الحروب العالمية الساخنة ثم الباردة وحتى تصفية الاستعمار هي الحل لتفريغ الطاقة وتصعيد الصناعة وضم مواطنين جدد إلى العالم. وعندما جاءت الثورة الصناعية الثالثة بدت العولمة وكأنها تحل كل المشاكل وتفتح وتوسع كل الأسواق، ولكن ذلك أضعف الدولة ووسائل السيطرة فلم يزد الإرهاب وحده، وإنما زادت حالة السيولة في العملات والسلع والبضائع والبشر، ومع السيولة لم يعد العالم مفهوما، أو يمكن تقدير قيمه المادية والمعنوية بسهولة.

هل تواجه البشرية مأزقا جديدا بالفعل، وتظهر جديته من صعوبة تعريفه وتحديده؟ والإجابة هي نعم لا لبس فيها، ولا يوجد ما يبشر إلا أن العقل الإنساني كان قادرا على مواجهة المآزق السابقة. ولكن مثل هذه الحكمة ليست مطمئنة لأنها تستند إلى سوابق الماضي، ولو كانت السوابق تنفع لما كان الأمر جديدا بالمرة، ومن التجربة فإن ما جرى لا ينفع كثيرا إزاء ما يستجد. وربما آن الأوان لكي نهتم بالموضوع سواء على المستوى الفكري أو العملي بحيث يكون الاهتمام مستقلا وأصيلا لأنه لن ينفع كثيرا إلقاء اللوم على أكتاف الآخرين لأننا علينا في النهاية أن نتعامل مع العالم كما هو، وليس كما نتمناه أو نتصوره!