«الرفيقان» بشَّار وفلاديمير: مَن يستدرج مَن؟

TT

في الوقت الذي كان مقياس التحدي الروسي يعلو قليلا ثم يهبط كثيرا وتحاول المفردات السياسية التي يقولها الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف (معنى كلمة «ميدفيديف» بالعربية الدب) المستقوي برئيس الحكومة فلاديمير بوتين (من كلمة «بوت» ومعناها بالعربية طريق أو هو طريق) وتتناغم ادارة هذا الأخير للأزمة مع ما يقوله صديقه ميدفيديف، فاجأ الرئيس بشَّار الأسد مضطراً الصديق الروسي بالوقوف الى جانبه في موضوع الأزمة مع جورجيا، معتبراً ان هذه الـ«جورجيا» بالنسبة الى روسيا مثل لبنان بالنسبة الى سورية. الدولتان منسلختان والتطلع الى استعادة كل منهما لا يخفى على من يتابع الفعل والقول من جانب الرئيس بشَّار عن «لبنانه» والثنائي ميدفيديف ـ بوتين عن «جورجياهما». ثم يرفع الرئيس بشَّار منسوب المفاجأة وكان اضاف الى الاستقواء بالرفيق الروسي بعض الاستقواء بالصديق الفرنسي المباغت الرئيس ساركوزي، وذلك بأن اهدى بحر طرطوس لتكون فيه بضعة اميال تستقر وتجوب فوقها وربما تحت الماء قِطَع من الاسطول الروسي.. وهو عرْض يسيل له اللعاب البوتيني في زمن التهميش الاميركي ـ الاوروبي للكرملين كرقم صعب في المعادلة الدولية.

الى هنا يكون «الرفيقان» بشَّار الأسد وعملياً فلاديمير بوتين استدرج كل منهما الآخر مسافة ملحوظة لم تصل الى منتصف الطريق، لكنها قابلة للتطور او للاندثار. وعلى وقـْع تصريحات ومواقف روسية لفظية لافتة وجّهها رجلا الكرملين الى اميركا والدول الاوروبية مثل «لسنا جمهورية موز» و«يجب ان يُحسب لنا حساب» والرد على هذه المواقف بتصريحات لاذعة مثل قول كوندوليزا رايس الخبيرة اصلا في شؤون الكرملين وملحقاته «إن روسيا تزداد تسلّطاً في الداخل وعدوانية في الخارج وان سياساتها تقودها إلى عزلة ذاتية وتهميش روسي».. على وقـْع هذه التصريحات التي تزامنت مع رسائل عسكرية المضمون من نوع تجربة صاروخ قادر على اختراق الدرع الاميركي وإرسال طائرتين قاذفتين من النوع المتطور إلى فنزويلا بما جعل رئيسها المشاكس تشافيز يرفع الصوت أعلى وأعلى ضد أميركا ومن يصطف وراءها، كان الهاجس البوتيني الأكبر هو استمرار تهريب الأموال من روسيا وبملايين الدولارات الى الدول الأوروبية مما سيتبين لاحقاً ان تأثيره على استراتيجية التحدي الروسي كان سلبياً، الأمر الذي جعل الحديث في شأن احتمال تطوُّر الأزمة الناشئة عن محاولة إحراج جورجيا المتآمرة لروسيا ورد هذه الاخيرة بمحاولة إخضاع جورجيا وحصر شأنها بما لا يريده الاميركان، إلى ان تُستعاد أجواء الحرب الباردة، لكن بين مَن ومَن، وذلك لأن روسيا الآن ليست بالشأن الذي كان عليه الاتحاد السوفياتي عندما خاض الحرب الباردة ومعه دول اوروبا الشرقية وعشرات الجمهوريات الدائرة في الفلك السوفياتي ضد اميركا ودول الغرب الاوروبي.

هنا نجد تبدلا في الرؤية الروسية معتمدة بنسبة ملحوظة على الورقة البشَّارية. وبعدما كانت القيادة العسكرية الروسية قالت ما عندها مثل «على السفن الاطلسية ان تختار مكاناً للتنزه غير البحر الأسود» فإن الهدية البشَّارية انعشت مفاصل قادة الكرملين ما جعل الحديث حول تزايُد عدد السفن الحربية الزائرة «إلى مرفأ طرطوس في سورية والمرافئ الصديقة الاخرى» يخرج من السر الى العلن، وما جعل الرئيس بوتين يقول وقد انتهت المشاورات الروسية ـ الأطلسية الى مراوحة قائمة على الحذر وفقدان الثقة وتبادُل الاتهامات في شأن الحرب الباردة وهل ستحدث ومَن يتحمل الوزر. كما ان الهدية البشَّارية أي مرفأ طرطوس وهو المُنشأة الوحيدة لروسيا في المنطقة التي ستخضع لعملية تجديد نوعية للبنى التحتية، رفع من منسوب الثقة بالنفس الروسية، ذلك ان هذا المرفأ يجعل سفن الاسطول الروسي التي تجوب مياه المتوسط لا تضطر للعودة إلى الموانئ الروسية على ضفاف البحر الأسود وإنما تجد الملاذ تحت الشمس الدافئة في سورية وفي قاعدة متطورة على ضفاف البحر الأبيض.

وعلى خلفية هذه الثقة بالنفس أطلق بوتين مفاجأة لا تنسجم مع واقع حال الاضطراب الراهن في أسواق المال التي تأثرت بها روسيا كما غيرها، وتتمثل في قوله إن الإنفاق الدفاعي لروسيا سيزيد بنسبة 27 في المائة في عام 2009، أي حوالي مائة مليار دولار. واتبع مسؤول عسكري قول بوتين بالاعلان عن تجربة جرت بنجاح على صاروخ عابر للقارات. لكن الادارة البوشية ردت بالقول «ان توسيع قوة روسيا لن يغيِّر مجرى التاريخ» وواصلت في الوقت نفسه السعي لفرض عزلة على روسيا وإنزال عقوبات عليها، الأمر الذي جعل بوتين ومسؤولين آخرين يشددون على طلب الحوار مع الغرب وعلى ان المصالح فوق الخلافات.

لكن رصد الرئيس بشَّار لهذه الذبذبة في الموقف الروسي قد يكون جعله يقول في مقابلة لافتة مع التلفزيون الايراني «إن الحرب الباردة قائمة بالفعل وإن على روسيا ألاَّ تواجه هذه الحرب من داخل حدودها فقط».

وهنا يجوز الافتراض أن الاستدراج لم يصل الى النهاية، وان «الرفيق» بوتين قطف من استدراج «الرفيق» بشَّار موطئ قدم في بحر طرطوس في حين ان «الرفيق» بشَّار حاول جاهداً ومخاطراًَ ان يكون المردود من استدراج روسيا موقفاً سميناً يُخرج الحكم السوري من الآتي الذي ربما يكون الأعظم، لكن «الرفيق» بوتين كان واضحاً في قوله ومِن قبل بث التلفزيون الإيراني للمقابلة اللافتة بثلاثة أيام «إن المصالح المشتركة مع اميركا تتفوق على بعض الخلافات».

وإذاً فالعودة البشَّارية إلى الجمع العربي وبالذات السعودية ومصر هي المأمونة وتحتاج منه الى انحناءة أخوية تغنيه عما لا نعتقد انه سيفيد حاضرا.. ولا حتى مستقبلا.