جنّة الأرض

TT

إدريس الجعيدي، أرسله السلطان المغربي حسن الأول ضمن وفد إلى أوروبا سنة 1876، وذهب إلى فرنسا وبلجيكا وإنجلترا وإيطاليا، وذلك للوقوف على أحوال تلك البلاد للاستفادة من تجاربها وما وصلت إليه من تقدم.. وقد استند السلطان إلى تقارير الجعيدي واتخذها مرجعا للإصلاحات التي كان ينوي إدخالها في البلاد.

وقد دوّنها بعد ذلك في كتاب عنوانه: «إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار».. وهو كتاب لطيف ظريف، فيه الكثير من السذاجة والاندهاش وحُسن الطوية والتلقائية بدون تكلف.

كنت أقرأ فيه فقط للترويح عن النفس إذا أردت الابتعاد عما يصدّع الرأس، ورغم بساطة هذا الكتاب وذلك المؤلف، إلاّ أنه لا يخلو من الفائدة وزيادة المعلومات عن مرحلة زمنية مهمة، وهي المخاض الحاسم الذي تولد منه القرن العشرون بكل جبروته.

في ذلك الوقت لم تكن السيارة والطيارة ولا حتى البسكليت قد اخترعت، وكانت العربات التي تجرها الخيول هي أسرع الوسائل التي تجري على الأرض.

وقد أكرمت الحكومة الفرنسية الوفد المغربي الذي كان من ضمنه الجعيدي، وقد أسكنوهم في مرحلة من المراحل في أحد الفنادق، وقد تعجب ولفت نظره ذلك النظام بطريقة الأكل، ابتداء بالملعقة والشوكة والسكين، ومروراً بتعاقب الأطباق الثلاثة، وانتهاء بالحلوى التي كان يعزّها كثيراً، ويبدو لي أنه كان (أكولاً) من الطراز الأول، وتأكد لي ذلك من وصفه وإعجابه المفرط بأنواع الطعام.

وهو يقول عن ذلك الفندق، إن أكثر زبائنه كانوا من التجار، وإنهم كانوا ينزلون إلى مطعم الفندق بانتظام أوقات الفطور والغداء والعشاء، وفي الليل يتسامرون قليلاً في غرفة يقال لها (البار)، ويتناولون مشروباتهم المحرمة، أبعدنا الله عنها.. أما في أوقاتهم العادية، فالفندق يكون معموراً لا تسمع فيه كلاماً ولا عتاباً ولا سلاماً، وإنما ترى كل واحد جالساً على شليته يشرب الدخان وهو مشغول (بكزيطته)، فما أعظم تولعهم بهذه الكزيطات، ولعلها عندهم من المفرحات المنشطات، وإن كانت هذه من ذلك القبيل فصُن نفسك عنها يا نبيل.

والكزيطات لمن لا يعرفها والتي ذكرها عمنا (الجعيدي) هي الصحف والجرائد، وهو يدعو أن يصون عن قراءتها كل نبيل، لماذا؟! لأن هناك بعض (النساء) يكتبن بها، ويتطرقن لبعض المواضيع التي لا تخلو من الخلاعة، ولا أدري لو أنه عاش بيننا في هذا الزمن وشاهد (الهوائل) على الشاشات فماذا سوف يقول، وأين يخبئ وجهه؟!

لكنه بعد حين من الوقت (لانت عريكته) قليلاً، بعد أن استمتع بجو باريس، وهناك مثل في الجزيرة العربية يقول: (ذاقت الصقها حلاته)، ويبدو أنه ذاقها فعلاً.

لأنه قال عن باريس: إنها ذات الحُسن الفريد، الجامعة النفس في الأرض على وجه ما تحب وتريد، إذ هي كما قيل جنة الدنيا بلا منازع، ومأوى الحكماء والعقلاء والنبلاء بلا معارض، فإليها تصبو نفوس العشاق، ويحن لوطنها قلب المشتاق.. ثم قال يتغنّى بها شعراً:

أباريس إذا كانت على الأرض جنة

فأنت المأوى على رغم حاسد

فما تشتهي النفس من كل رائق

كثير بها لكنه غير خالد

[email protected]