ردم.. ما عليه نخيل

TT

لا اعرف كيف تروي الجدات لاحفادهن حكاية البحرين. هناك مذكرات كثيرة، متواضعة وماتعة، في هذا الباب. يوسف الشيراوي ومحمد جابر الانصاري وقاسم حداد وقصص ابراهيم بشمي. وعندما جئت البحرين اول مرة العام 1964 كان اهلها يحكون عن المنامة والمحرق كما يتحدث الصينيون عن المسافة بين بكين وشانغاي. فقد كانت عقلية اهل الجزر لا تزال سيدة المقاييس. وكان ميل ونصف الميل من البحر يفصل بين الجزيرة الاولى والثانية. والآن لم يعد احد يذكر ان البحرين كانت مجموعة من الجزر، لأن الهولنديين علموا الجميع ان الارض الاقل كلفة في العواصم هي ارض الردم. او الدفنة في العامية. وقد حول الهولنديون مياه الانهر والمستنقعات الى مراع للابقار، فيما حول البحرينيون مياه البحر الى ناطحات سحاب ومراكز تجارية واحياء جديدة بينها وبين المنامة القديمة الف عام من التطور الهندسي والابعاد الاقتصادية.

يقول السير تشارلز بالغريف في كتابه «ساحل القراصنة» ان البحرين تقع في منتصف الخليج، وانه في العام 1819 كانت المحرّق هي مركز الحكم فيما كانت المنامة المركز التجاري. كان الشيخ وكبار التجار يسكنون المحرق، التي كانت اكبر من المنامة وافضل منها في المستوى الصحي: «ان البحرينيين شعب يعيش على البحر ومنه. ونادرا ما كان هناك شخص لا يعيش من البحر، بطريقة او بأخرى».

لكن القبطان فرانسيس لوش رأى المنامة بعين اخرى عندما وصلها في القرن التاسع عشر: «ان مظهر ووضع المدينة ارقى من اي مدينة اخرى في الخليج. ورغم ان بيوتها مبنية من سعف النخيل الا انها دقيقة الصنع ونظيفة لدرجة لم اشاهد مثلها في الاماكن الاخرى. والناس ايضا يبدون انهم من طبقة راقية. ففي خارج المدينة هناك حقول مزروعة في شكل ممتاز، تقطعها خطوط من اشجار النخيل. وعلى مسافة ابعد الى داخل الجزيرة هناك بساتين كبيرة من النخيل موزعة جيدا، الا ان الذي اثار انتباهي اكثر من اي شيء آخر هو الحقول المليئة بالبرسيم الجميل الذي يستخدم كغذاء للابقار التي تنتج افضل انواع الحليب والزبدة وهو ما لم نذق مثله منذ ان غادرنا انكلترا».

غابات النخيل هو المشهد الذي بدأ يغيب عن البحرين شيئاً فشيئاً منذ نهاية الخمسينات. المدينة الحتمية تستبدل الخضرة بالاسمنت.