تأملات سياسية في أزمة مالية

TT

على قاعدة «مصائب قوم عند قوم فوائد» أثبت أسبوعان من العواصف المالية التي هبت على العالم نعمة صغر حجم لبنان الاقتصادي ـ ولا نقول محدوديته. فإذا كان قد بقي بمنأى عن تداعياتها المباشرة فالفضل في وقايته لا يعود الى حكمة في سياسته المالية بقدر ما يعود إلى صغر حجمه المصرفي الذي حال دون مساهمته ـ وربما الاصح «تورطه» ـ في نشاطات الظاهرة المصرفية الأبرز لعصر العولمة: المؤسسات المالية الضخمة (Mega – Financial Institution ).

انطلاقا من هذه الخلفية ليس من المبالغة في شيء الادعاء بان النظام المصرفي اللبناني قد يكون اليوم أسلم نظام في العالم.. بسبب محدودية القنوات المتاحة له للتعامل مع الخارج والقيود التي لا تسمح بأكثر من حرية محدودة لانتقال رؤوس الاموال اللبنانية الى الخارج.

وعليه، كانت النتيجة الطبيعية لهذا الواقع اكتفاء المصارف والصناديق اللبنانية بتوظيف اصولها واستثماراتها في السوق المحلية وتوجيه محافظها الى الاقراض والتمويل الداخلي الذي يشمل الحكومة والقطاع الخاص ـ ما جعلها بعيدة عن تأثير أحدث أزمات «العولمة».

إلا أن المجزرة المالية التي مر بها العالم الرأسمالي خلال الاسبوعين المنصرمين تطرح مجموعة اسئلة قد تكون أولاها: هل أصبحت «العولمة» العدو الذاتي للنظام الرأسمالي بعد أن أصبحت المؤسسات المالية الضخمة خارج النفوذ السيادي لدولها وبالتالي عرضة لمؤثرات يصعب التحكم بها مركزيا؟

واستطرادا، هل يوحي لجوء الادارة الاميركية الى «تأميم» أضخم شركة تأمين في العالم ((AIG، وقبلها مؤسسة الإقراض العقاري الضخمة (Fannie and Freddie) ـ وقبل الولايات المتحدة إقدام الحكومة البريطانية على «تأميم» رابع مؤسسة للاقراض العقاري في المملكة المتحدة (Northern Rock ) – ببروز محاولة، وان خجولة، لإعادة الاعتبار الى «الدولة» الرأسمالية بمواجهة «النظام» الرأسمالي نفسه، بعد أن أفلت من عقالها، وذلك عبر ابلاغ مؤسسات العالم المالية الضخمة انها مهما كبرت وتوسعت و«تعولمت».. لا غنى لها عن الدولة في نهاية المطاف؟

لا حاجة للتذكير بأن «تأميم» الادارة الاميركية لبعض أضخم مؤسساتها المالية لم يكن فعل ايمان بنظرية اشتراكية في الاصل بقدر ما كان حالة اضطرارية ناجمة عن إحجام أي مشتر في السوق الرأسمالية الحرة عن المغامرة بشراء المؤسسة المؤممة في أسوأ أيامها.

ولا حاجة للتذكير ايضا، بان تكرار هذا السيناريو قد يحول الدولة الرأسمالية الى «الملاذ الاخير» للنظام الرأسمالي في عصر العولمة الجامحة.

هذا لا يعني أن الرأسمالية أصبحت أوعر الطرق واطولها الى «التأميم» ولكنه قد يعني بداية انحسار موجة العولمة المصرفية والمالية المنفلتة من أي قيد أو رقابة بعد ان تأكد اضطرار المؤسسات الرأسمالية للاحتماء بالدولة في أي حالة تواجه فيها ـ كما اليوم ـ شحا في مصادر التمويل.

تبدو صناعة المال محشورة اليوم بين فكي مطلبين ملحين أولهما الحاجة الى الرساميل بحكم كون الموجودات ـ كالممتلكات العقارية ـ لا تساوي القيمة الحقيقية المقومة بها، وثانيهما الحاجة الى تقليص حجم عملياتها الدولية بعد ان تسببت طفرة الاقراض في تضخيم الاسعار الحقيقية للموجودات.

قد تكون ردة الفعل الآنية على أحداث الاسبوعين المنصرمين الدعوة إلى اعادة تأهيل الآلية الرأسمالية لعصر العولمة بدءا بتطوير نظام مراقبة شفاف للعمالقة ـ مثل ليمان براذرز واي أي جي ـ ونظام محاسبة متوازن يقوّم المخاطر الاستثمارية على اسس اكثر واقعية، مع ذلك، لا تبدو مجرد صدفة أن تؤكد الادارة الاميركية، ومن قبلها الحكومة البريطانية، أنه في مواجهة الأزمات المالية أو المصرفية الحادة تبقى الدولة وحدها ـ والدولة الرأسمالية تحديدا ـ الجهة المستعدة لشراء المؤسسات المالية المتعثرة، وأهمية هذا الدور المطلوب من الدولة الرأسمالية تؤكده ملاحظة رئيس الاتحاد الدولي للمصرفيين العرب، جوزف طربيه، بان «الخيار الوحيد» المتاح أمام السلطات المالية والنقدية الدولية هو «التدخل المباشر لدعم المؤسسات ذات الطابع الاستراتيجي والحؤول دون انهيارات متتالية يصعب مواجهتها في مرحلة لاحقة». أي أن ما كان ضرورة في الأنظمة الاشتراكية أصبح اليوم خيارا مطلوبا من الأنظمة الرأسمالية أيضا: تعزيز مركزية الدولة ومرجعيتها بحيث تصبح المظلة الواقية، إن لم يكن الضمانة النهائية، للنظام الرأسمالي.