أرفع وسام علمي.. وسياسات العلم في عالمنا العربي

TT

في 29 من شهر سبتمبر الجاري وفي احتفال خاص بالبيت الأبيض سيقوم الرئيس الأميركي جورج بوش بتكريم العالم المصري ـ الأميركي البروفيسور مصطفى السيد بمنحه أرفع وسام علمي أميركي ـ ميدالية العلوم الوطنية ـ في مجال الكيمياء وبمفرده لعام 2007، وذلك مع بقية العلماء الفائزين بالجوائز التي تنظمها «المؤسسة الوطنية الأميركية للعلوم» في عدة مجالات أخرى منها الفيزياء والبيولوجيا والرياضيات وعلوم الهندسة والعلوم الاجتماعية والسلوكية، والتي تسهم أبحاثهم في تحقيق التنمية العلمية والتكنولوجية وتؤدي لمزيد من الإنجازات. وتعد ميدالية العلوم الوطنية، من أرقى الأوسمة العلمية التي يمنحها رئيس الولايات المتحدة شخصياً، وقد أسسها الكونجرس الأميركي في 25 أغسطس عام 1959.

وقد نال البروفيسور مصطفى السيد ـ أستاذ الكيمياء ومدير معمل ديناميكيات الليزر بمعهد جورجيا للتكنولوجيا في الولايات المتحدة ـ هذا الوسام العلمي الرفيع، نظراً لإسهاماته العديدة البناءة والمبدعة التي أسهمت في فهم الخواص البصرية والإلكترونية للمواد النانوية وتطبيقاتها في مجالات عديدة وبخاصة «طب النانو» ـ النانومتر جزء من المليار من المتر ـ ومجال العوامل المساعدة النانوية، ولجهوده الإنسانية في التعاون والتبادل بين مختلف الدول، ولدوره البارز في تطوير الريادة العلمية في المستقبل. وقد تجاوزت أبحاثه أكثر من 500 بحث في الدوريات العلمية المحكمة والرائدة، وفي 8 يناير الماضي احتل أحد أبحاثه المركز «الأول» في قائمة العشرة بحوث «القمة» الأكثر اقتباساً في الكيمياء، وللبروفيسور «السيد» قاعدة علمية عرفت بإسمه «السيد رول» El-Sayed’s Rule أسسها في الستينات من القرن الماضي ولا تزال تدرس عالمياً في الكتب الدراسية حتى الآن.

وعندما أعلن عن حصول البروفيسور «السيد» على هذه الجائزة، قال: «يا الهي، أنا محظوظ جداً وسعيد أني أعمل في العلم في أميركا، هناك العديد من الأفراد الممتازين الذين يعملون في العلم على مستوى الولايات المتحدة»، هذه الكلمات القليلة لها معان كبيرة، وتطرح أسئلة كثيرة حول سياسات العلم والتكنولوجيا في عالمنا العربي، وهل هذه السياسات كانت ستمكن العقول العربية المهاجرة من تحقيق إنجازات علمية متميزة في داخل أوطانهم والحصول على أرفع الجوائز والأوسمة في العلم والتكنولوجيا إن هم مارسوا العلم داخل عالمنا العربي؟

سياسات العلم والتكنولوجيا في عالمنا العربي تحتاج الى إعادة نظر، وحال العلم والتكنولوجيا والبحث العلمي والمستوى العام للتعليم لا يخفى على أحد، فمن أهم أسباب هجرة الكفاءات العلمية العربية للخارج، عدم وجود البيئة العلمية المناسبة والإمكانات المادية المساعدة.

بينما في العديد من الدول المتقدمة وبخاصة في الولايات المتحدة، نجد أن التقدم والتطور العلمي لم يأت من فراغ، وإنما هو نتاج جهود كبيرة ومنظومة متكاملة من السياسات والبرامج العديدة المتميزة التي تساهم فيها شبكة غير محدودة من الوكالات والمؤسسات العلمية المتخصصة والأجهزة التشريعية والتنفيذية والوكالات الفيدرالية وهيئات العلماء والجامعات والأفراد. ففي شهر أبريل الماضي نشرت «مؤسسة خدمة أبحاث الكونجرس Congressional Research Service » دراسة لـ«ديبرا ستين» Deborah Stine بعنوان «صناعة سياسة العلم والتكنولوجيا» Science and Technology Policymaking، جاء فيها أن صناعة سياسة العلم والتكنولوجيا تضمن استخدام العلم في التواصل مع المشكلات العامة، وبما يجعل هناك إرتباطاً وثيقاً بين البحث العلمي والتعليم العالي، ولهذا يصعب فصل سياسات التعليم عن سياسة العلم والتكنولوجيا. الأمر الذي ساعد الولايات المتحدة أن تتبوء موقعاً متفرداً علمياً وتكنولوجياً، لأنها الأكثر إنتاجاً لتكنولوجيا العلم والمعرفة الأكثر تقدماً، ويرجع أحد أهم أسباب تفوقها للإهتمام بالعلوم والرياضيات، فليس أخطر على مستقبل أي أمة من إنصراف أبنائها عن الإهتمام بالعلم وبخاصة علوم العصر الحديثة التي تشكل حالياً مجالات تنافس حقيقية بين الدول، كالنانوتكنولوجي (التقنيات متناهية الصغر) والروبوتات والجينات، فالتفوق الأميركي جاء نتيجة إدراك الجميع لقيمة وأهمية العلم والتكنولوجيا في تحقيق التفوق والمنافسة، وهناك شواهد وأدلة حقيقية لهذا الإدراك، فهناك الإعلام العلمي المتميز، والكتب العلمية التي تتصدر قوائم التوزيع، والمكانة الكبيرة المتزايدة التي يحصل عليها العلماء، واستقطاب العقول العلمية المتميزة، والإهتمام البالغ بالطلاب الذين تبدو عليهم دلائل وعلامات النبوغ والتفوق العلمي، وبراءات الاختراع المتزايدة، وإنشاء مراكز ومتاحف للعلوم، والإهتمام بمواد الرياضيات والعلوم والخيال العلمي، وتشجيع الاكتشافات الحديثة والمعارف المفيدة، وباتت العلوم والتكنولوجيا وكافة الإختراعات ترتبط إرتباطاً وثيقاً باقتصاد الدولة وحاجات المجتمع.

خلاصة القول، إذا كنا نريد نهضة علمية وتكنولوجية حقيقية في عالمنا العربي، فقد أصبح هناك ضرورة لاتخاذ خطوات عملية جادة وعاجلة تنهض بالعلم والتكنولوجيا، وتساعد على إدراك قيمته وأهميته وقوته في حاضر ومستقبل أمتنا، ولن يتم هذا إلا من خلال منظومة متكاملة من السياسات والبرامج الحقيقية المتميزة تشمل كل أنظمة ومؤسسات وهيئات الدولة والمجتمع ذات الصلة بالعلم والتكنولوجيا.

* كاتبة وباحثة مصرية في الشؤون العلمية