الروليت الروسية

TT

لقد كان هارولد ويلسون وزير العمل البريطاني في الستينات، هو من تبنى مقولة «الأسبوع فترة طويلة في السياسة». ومنذ ذلك الوقت، أكد العديد من السياسيين صحة هذا القول المأثور، وهو ما يكدرهم أحيانا.

ربما يكون آخر من تعلم هذه المقولة هو فلاديمير بوتين رئيس الوزراء والحاكم الفعلي لروسيا.

منذ أكثر من شهر، كان يسير فوق السحاب بعد أن غزا دولتين صغيرتين مجاورتين لجورجيا، واستولى عليهما بدون تكبد أية تكاليف سياسية. لقد أعطى جيشه المنتصر إشارة إلى أن روسيا عادت من جديد إلى مسيرتها التي لا يمكن توقفها عبر التاريخ. وكان الممتدحون واسعي الخيال في الكرملين وما حوله يشبهون ما فعله «القيصر» فلاديمير بإنجازات أسلافه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. في تلك «الأيام الذهبية» من الامبراطورية الروسية، كانت جيوش موسكو تفتح بلدانا بمعدل كيلومتر مربع يوميا، في بلاد فارس والامبراطورية العثمانية والامبراطوريات الإسلامية في آسيا الوسطى وسيبيريا.

ولكن إذا كان الأسبوع فترة طويلة في السياسة، فإن خمسة أسابيع فترة أطول بكثير.

بعد أكثر من شهر من نجاح الغزو، كيف تبدو الأمور بالنسبة لروسيا؟

الإجابة هي: ليست جيدة جدا.

لقد أطاحت فكرة أن روسيا ربما تصبح منعزلة، ومن ثم تفقد جزءا من قدرتها على الوصول إلى موارد رأس المال العالمية بأكثر من نصف قيمة الأسهم في أسواقها المالية.

وقد وصل الشعور بالغضب إلى درجة قوية، لم يكن من الحكومة حينها إلا أن أغلقت التداول وعلقت عمليات التبادل. ولم يساعدها كذلك حقيقة أن النظام العالمي بأسره يعاني من أزمة بالفعل لعدة أسباب أخرى.

وكان إجماع الخبراء أن روسيا ستفقد مكانتها كثالث أكثر مكان جذاب في العالم، من بين الاقتصادات الجديدة الناشئة، للاستثمار الأجنبي المباشر في المستقبل القريب. وتأجلت عشرات المشروعات، تبلغ قيمة بعضها مليارات الدولارات، مما يشير إلى الأثر السيئ على معدلات الوظائف ومعدلات النمو الاقتصادي في روسيا.

ما زاد الأمر سوءا هو أن الروبل، العملة الروسية المعتلة بالفعل، مثل صدمة هو الآخر حيث فقد حوالي ربع قيمته منذ الغزو.

لم يدرك بوتين أننا نعيش في عالم متداخل لا يمكن لأحد فيه أن يسود وحده بدون أن يفقد مكانه في مرحلة ما. عندما أرسل القياصرة جيوشهم في جميع الاتجاهات، لم يكن عليهم أن يقلقوا بشأن مستويات الاستثمار الأجنبي، وقيمة الروبل، وتهديدات البطالة.

قد يكون للغزو الذي حدث الشهر الماضي تكاليف سياسية داخلية أيضا. ينص الدستور الروسي على أن السياسة الخارجية وشؤون الحرب والسلام من المجالات يختص بها رئيس الجمهورية، بينما يركز رئيس الوزراء على القضايا الداخلية.

ولكن غزو جورجيا الأسبوع الماضي كشف عن معادلة مختلفة تماما. فقد ظهر أن بوتين رئيس الوزراء هو من يدير العرض من الألف إلى الياء، بينما يلعب الرئيس ديمتري ميدفيديف دورا ثانيا. تذكر العالم بإلقاء نظرة واحدة شاملة أن الرئاسة والقوى الدستورية العظيمة في روسيا مجرد قشرة مجوفة، على الأقل في الوضع الحالي.

هذا تراجع كبير لعملية التحول الديمقراطي واندماج الحكومة المؤسسية في روسيا. إذا كان الرئيس مهمشا إلى درجة كبيرة، فما نراه هو نظام حكم «رجل قوي» من النوع الذي كان منتشرا في أميركا اللاتينية في عصر المجالس العسكرية.

يواجه بوتين الآن قضية شائكة تتعلق بما يفعله بالدويلتين الصغيرتين اللتين أعاد تشكيلهما كـ«دولتين مستقلتين».

يطالب شعب أوسيتيا الجنوبية باتحادهما مع أوسيتيا الشمالية التي هي بالفعل جزء من روسيا. أما في الأبخاز، فسكانها يطالبون قوميتهم الصغيرة ضد الأقلية الروسية العرقية في أرضهم، مما يجعل موقفهم قنبلة موقوتة لبوتين.

ولكن عندما يتطرق الأمر على علاقات روسيا الخارجية، فإن تكلفة المغامرة من الممكن أن تكون أعلى.

أدت ردود الأفعال إلى نتائج عديدة منها إسراع بولندا وجمهورية التشيك إلى توقيع عقود جديدة مع الولايات المتحدة لوضع نظم مضادة للصواريخ في أراضيها. وأسكتت ملاحظة أن روسيا الثائرة في حالة سعي للغزو، منتقدي الاتفاقيات المثيرة للجدل.

وأدى الغزو أيضا إلى انهيار التحالف الموالي لحكومة موسكو في كييف، عاصمة أوكرانيا. ومع حضور صورة دخول الدبابات الروسية في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في الأذهان، من غير المحتمل أن تفوز الأحزاب الموالية لموسكو في الانتخابات العامة القادمة في أوكرانيا. وإذا كان هناك شيء آخر، فقد قوى الغزو الروسي من موقف الأحزاب الأوكرانية التي تطالب بعضوية الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).

كان أحد الأسباب المذكورة صراحة لهذا الغزو، هو إطاحة حكومة الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي في تبليسي. ولكن زاد الغزو من قوة ساكاشفيلي حتى نقاد المصالح لم يعد في مقدورهم أن ينظر إليهم على أنهم موالون لروسيا.

بسبب سرعة غضبه وقلة خبرته، كان ساكاشفيلي يتجه نحو تدمير ذاته سياسيا. ولكن أعطاه الغزو فترة أخرى.

دفع الخوف من التوسع الروسي رئيس تركمنستان الجديد بيردي محمدوف إلى التخلي عن سياسة سلفه صفر على نيازوف الحيادية.

في زيارته الأخيرة إلى العاصمة التركية أنقرة، أوضح بيردي محمدوف، أنه كان يفكر في تحول كبير في سياسته تجاه إقامة علاقات أقوى مع الولايات المتحدة وتركيا. ولمح أيضا إلى أن حكومته ستقترب من تنفيذ مشروع خط أنابيب عبر بحر قزوين، وهو ما تعارضه روسيا وإيران، بينما تسانده الولايات المتحدة وتركيا.

وأدى الخوف من روسيا العدوانية الثائرة أيضا إلى إحماء العلاقات بين دول آسيا الوسطى من جانب، وحلف الناتو من جانب آخر. ومن المقرر أن تستكمل مباحثات التعاون بين أوزباكستان والحلف العام المقبل، لتنهي فترة جمود بدأت عام 2005.

وكما هو الحال دوما، إن غزو أرض شعب آخر، مثلما فعل الأميركيون في أفغانستان والعراق، أمر سهل. الأمر الصعب هو التعامل مع تبعاته.