الحكيم يتكلم

TT

ليس هناك أسوأ ممن يتشدق بالمبادئ في العلاقات الدولية، وينسى جميع المبادئ في علاقاته الأسرية.

وقبل أن أتورط في ما لا تحمد عقباه، لا بد أن أستدرك وأعترف أنني أبعد ما أكون عن المثاليات، لهذا تجدونني دائماً كالكتاب المفتوح أقرّع نفسي حيناً، وحيناً أتهكم عليها، وحيناً أفضحها، وحيناً أمجدها، وحيناً اتوطى في بطنها و(أمردغها)، وحيناً أبكي معها وعليها، وحيناً أهرب منها وتلحقني، وحيناً ألوي عنقها فتلوي هي قلبي بدون أي رحمة أو شفقة.

إنها معركة حامية الوطيس بدأت من أول ما عرفت هذه النفس الماكرة شبه الماجنة، وما زالت تلك المعركة مستمرة إلى هذه الساعة، ولم يتدخل أحد من أولاد الحلال أو غيرهم لفك هذا الاشتباك الدموي الهزلي.

أعود لموضوعي ـ أي موضوع (المبادئ) ـ، والواقع أنها ليست مبادئ قدسية، بقدر ما هي مبادئ (ذوقية) ـ بمعنى: أن نقدم شيئاً من المجاملات وغض النظر عن الأخطاء البسيطة، وإيجاد العذر لأهلنا أو أصحابنا أحياناً، وألا نكثر من (اللوم)، فالإكثار من اللوم ما هو إلاّ كمثل أن تأتي بالتراب وتحثوه على الأكل.

وعلى ذكر الأكل، فقد قال لي صديق قبل أيام، قال لي وهو يضحك، لقد فاجأتنا ابنتي البالغ عمرها 12 سنة، بطبخة هي التي ابتكرتها وقدمتها لنا، كانت تلك الطبخة محروقة ومالحة، لكننا أكلناها وشجعناها وشكرناها عليها ولم نكسر خاطرها، رغم أن بطني مغصني بعد ذلك، وفي ثاني يوم طلبت منها والدتها أن تكرر فعلتها، غير أنها كانت معها في المطبخ توجهها بطريقة غير مباشرة، وتغير الحال إلى الأفضل لدرجة أن البنت من شدة حماستها قالت لنا إنها بعد أن تنهي دراستها الثانوية، سوف تدرس وتتخصص بالطبخ، على أمل أن تكون (الشيف) في أحد فنادق النجوم الخمسة، وصفقنا لها على هذا الطموح.

ولا أنسى يوماً عندما كنت أواسي صبياً في فقد أبيه، وقال لي وهو دامع العينين: إنني متأكد أن أبي كان يحب أمي، وأمي كذلك تحبه (وتموت فيه)، غير أنني لا أذكر طوال حياتي غير (خناقاتهما) التافهة غير المبررة على أبسط الأشياء، وما زالت والدتي تبكي كل يوم وتقول: يا ليتني لم ألُمه، يا ليتني ريّحته، يا ليتني لم أتحدّه، يا ليتني حمدت ربي على النعمة التي كنت فيها معه، يا ليت الأيام تعود للوراء.

قلت له: لا تأس يا بني على ما فات، وخذ العبرة من لوم والدتك لنفسها، وعش حياتك (بالطول والعرض)، واعلم أن الخير هو الغالب في نفوس الناس، لكن بعض الناس أغبى وأجبن من أن يجلوه ويصقلوه ويظهروه للعلن، ويعذر بعضهم بعضا، ويحبوا بعضهم بعضا، وضربت له مثلاً في نفسي عندما كنت طالباً أدرس في الخارج، وكنت أسكن في غرفة مع عجوز أرملة في شقتها، ومرضت تلك السيدة ودخلت المستشفى، ومن محبتي لها، قررت أن أزورها، وذهبت إلى محل لبيع الزهور واخترت باقة زهور صفراء اللون وقدمتها لها، وشكرتني وقبّلتني وهي تضحك، وطلبت من الممرضة مزهرية ووضعت الزهور فيها.

وقد علمت في ما بعد أن تلك الزهور الصفراء بالذات، إنما تقدم للموتى في قبورهم.

لم تغضب تلك الأرملة الطيبة ولم تتطير، لكنها فرحت بزيارتي، وعذرت (غشامتي) البدوية.

فيا أيها الناس دعوني على الأقل لمرة واحدة أن أكون حكيماً وأقول لكم: أرجوكم اعذروا بعضكم بعضاً..

فالعمر لو تدرون قصير.

[email protected]