الأزمة المالية الاقتصادية الأمريكية.. نهاية منظومة من الأساطير

TT

هناك دائما عصر أسود ينتظرك وراء الباب اذا أنت أسأت اللعب بالأوراق التي بين يديك. أو اذا اقترفت من الاخطاء عددا كافيا.. بول جونسون.

وهل كان يمكن انتظار غير هذا؟.. غير هذا العصر الأسود الذي يعصف بأمريكا ويلفها في ظلمته والعالم من ورائها ـ؟.. هل من السنن الكونية، والقوانين الاجتماعية أن تزرع شوكا ساما عقيما فيثمر وردا ذا أريج، وثمارا حلوة؟!.. ان هذه الكارثة القاصمة التي تهد عافية الولايات المتحدة هدا، انما هي (نتيجة) حتمية: نتيجة للتحجر، والعمى الاستراتيجي والغرور السياسي والاقتصادي.. نتيجة الاستسلام لخرافات وأساطير: تكفي واحدة منها لتقويض أقوى الامبراطوريات.. ومن هذه الاساطير الساحقة الماحقة.

1 ـ (أسطورة تطبيق الشفافية).. وليست الشفافية ذاتها: أسطورة ـ بمفهومها الصحيح ـ. ولكن الاسطورة: ادعاء تطبيقها وممارستها. فما جرى للاقتصاد الامريكي لم يكن مباغتا، اذ قامت عشرات الادلة، ومئات القرائن على مؤشرات الانهيار منذ انهيار (انرون)، بل منذ النذر التي أعلنها بول كندي في (الاستعداد للقرن الحادي والعشرين)، وأعلنها ترو في (صراع على القمة)، بل ظهرت مؤشرات الانهيار قبل ذلك.. وأقرب دليل على (اسطورة) تطبيق الشفافية والتزامها: ان بنك (ليمان برادذرد) ـ مثلا ـ الذي اعلن افلاسه قبل قليل ـ كان في حالة (وفاة سريرية) منذ مدة طويلة. ولكن جرى (التستر والتعتيم) على حالته لمدة طويلة أيضا.. فأين الشفافية المزعومة ها هنا؟!.. وهذا المثال ينطبق على (بنك أف أمريكا)، وبنك (ميريل لينش)، وعلى مؤسسات أخرى نظيرة.

2 ـ أسطورة (المعدة القوية الهاضمة). لقد كان الناصحون ـ من أمريكا وغيرها من مفكري العالم الأحرار ـ ينصحون المسؤولين الأمريكيين دوما بأن مخاطر جسيمة متتابعة تحيق بهذه الدولة الكبرى. وكان الرد ـ دوما ـ: (لا يهم)!! فأمريكا بلد ذو معدة قوية هاضمة لا تضعف ولا تمرض وهي قادرة على هضم الأزمات مهما كان حجمها ونوعها، وهذه اسطورة مركبة من آفتين: آفة الغرور، وآفة الغباوة وهما آفتان حاجبتان عن العبرة المستقاة من تاريخ الأمم، ومصائر الدول. والدليل القاطع على ذلك: أن المعدة القوية الهاضمة عجزت ـ الآن ـ عن هضم الأزمات المالية والاقتصادية التي تجتاح الولايات المتحدة.. ان خطة الانقاذ نفسها تحيط بها الشكوك الموضوعية والفنية، وثمة خبراء كثر يقولون: ان الخطة يغلب عليها طابع رفع (الحرج السياسي) عن الادارة الحالية: لأسباب سياسية: انتخابية وخارجية.. واذا كان لا بد من تطعيم السياق بما يشبه النكتة الملطفة، فان المعدة القوية قادرة على هضم وجبات دسمة وان زادت كميتها ولكنها ـ بالتأكيد ـ غير قادرة على هضم اطنان من الحديد او حجارة الجرانيت!.

3 ـ اسطورة (الايدلوجيا)، وهي اسطورة ينبغي التوقف عندها طويلا لاستنباط دلالات كثيرة منها أ ـ دلالة (الذهول) عن المشكلات الكبرى بسبب (الاستغراق) في متطلبات الايدلوجيا.. فهذه الادارة الامريكية الراهنة مشبعة بالشحنات الايدلوجية الى درجة التخمة، ولهذا خصصت مساحات هائلة من وقتها للاهتمامات الايدلوجية، وهذه الاهتمامات المجنحة المتقدة ـ بلا انقطاع ـ اطفأت جذوة الاهتمام بالمشكلات العظمى التي تعاني منها الولايات المتحدة، أو حدت من توقدها الى أدنى درجة ب ـ دلالة (تكاليف الخرافة الايدلوجية)، فلم تك هذه الايدلوجيا مجرد حلم ذهني، أو هيام عقدي، فقد تجسدت الايدلوجيا في خطط عملية ترتب عليها حروب الفتح والتبشير بالنموذج: كلفت الخزانة الأميركية ثلاثة ترليونات دولار جـ ـ ودلالة عدم الاعتبار بما جرى للاتحاد السوفياتي، فمن الأسباب الجوهرية في انهيار هذا الاتحاد (تقدّّم الايدلوجيا الوهمية على (المصلحة القومية الحقيقية)، والتضحية بالثانية في سبيل الأولى!.

4 ـ اسطورة (نهاية التاريخ).. ففي نشوة الفرح بسقوط الاتحاد السوفياتي، طفق مبشرون أمريكان يقولون: إن سقوط الامبراطورية السوفيتية معناه ـ بالضرورة والحتم ـ: الانتصار الأبدي للرأسمالية، وبناء على هذا الانتصار ختمت حركة التاريخ السياسي والاقتصادي وعنوان الختم هو: (قفل باب الاجتهاد الفكري والسياسي في مجالي: الرأسمالية والديمقراطية).. ما يجري لأمريكا ـ وفيها ـ اليوم ينسف هذه الأسطورة، لأن ما يجري سيجبر القوم على إعادة النظر والاجتهاد في بنية النظام الاقتصادي والمالي، فإن (الترقيع) لن يجدي ـ قط ـ وقد فات أوانه. هذا إن صح ان هناك فرصة أخيرة للاجتهاد والتصحيح.

5 ـ أسطورة (الحرية الاقتصادية السائبة) التي نادى بها آدم سميث ـ مثلا ـ والذي يصر دراويشه ـ من هنا وهناك ـ على ان يظل يتحكم ـ بفكره ـ في اقتصاد العالم وهو في قبره.. إن الأزمة المالية الاقتصادية التي ضربت أمريكا، اضطرت الدولة الى (التدخل) الواسع والعميق والسريع في صميم الممارسات الرأسمالية، إذ مارست الحكومة الفدرالية (سياسة التأميم) تجاه أكثر من مؤسسة اقتصادية ومالية. وطالما عيّر رأسماليو أمريكا دولا عديدة بسياسة التدخل ابتغاء الحفاظ على (التوازن الاقتصادي).. ونحن ـ قطعا ـ لسنا مع نموذج الاشتراكية العلمية الذي خاب هو ايضا بسبب الغلو في النظرية والتطبيق، بيد ان رفض الغلو الاشتراكي ليس معناه القبول بـ (رأسمالية ذات فك مفترس) أو رأسمالية بلا ضوابط ولا قيود ولا أخلاق ولا ضمير. فهذا النوع من الرأسمالية الفاجرة أدى الى ظهور الماركسية، والى قبول نداءاتها.. يقول هـ. أ. ل فيشر في كتابه ـ تاريخ أوربا الحديث ـ:«كان يؤمل من الحكومات ان تكبح بنوع خاص شرور النظام الرأسمالي وآثامه. هذه الشرور التي تظهر في تبديد الجهود نتيجة للمزاحمة المطلقة، وفي عدم حرص الشركات ذات المسؤولية المحدودة على النفع والصالح العام، وفي ضغط مؤثرات الممولين الأثيمة على المجالس النيابية وشؤون التشريع، واستغلال الضعفاء وتسخيرهم، والتفاوت الهائل في الثروة بين انسان وآخر..

وعندئذ تساءل الناس: إلى أين العالم سائر؟. وما هو المصير؟ واستمر الجدل، وارتفع النقاش بأن البرلمانات أصابها الافلاس، وأن الحضارة الديمقراطية بلغت نقطة التحول والانحراف، وأن مبدأ حرية الاقتصاد يجب أن يستعاض عنه بمبدأ (الاقتصاد المنظم) في جميع الشؤون. وكان ثمة شر عظيم نجم عن الحرب، وشاع في قسم كبير من أوربا وهو: انهيار النظام الاجتماعي. فقد تآكلت ثقة الناس بسلطان الحكومات، ووهن نفوذ العرف والتقاليد. وعندئذ تطلع الناس الى شيء جديد، أو الى مبدأ جديد. ولقد استمد هذا المبدأ من كتابات ماركس المطالبة بالاستعاضة بالشيوعية عن النظام الرأسمالي الراهن».

ولئن أدى سلوك الرأسمالية الفاجرة ـ من قبل ـ إلى ظهور الشيوعية، فإن سلوك الرأسمالية اليوم سيؤدي ـ بلا شك ـ الى ما هو أسوأ من الشيوعية، وذلك لسبب بدهي هو: ان الرأسمالية التي انتقدها كارل ماركس أقل فجورا وآثاما من الرأسمالية في هذه الحقبة، حيث ان الرأسمالية الحالية تسلحت بوسائل (تعينها على الظلم وعلى توسيع نطاقه): لم تكن تملكها الرأسمالية السابقة.

قلنا: إن مما يقوض مقولة (الاقتصاد الحر) وانه لا يجوز للدولة أن (تتدخل) فيه: مما يقوض هذه المقولة: الاجراءات الموسعة التي اتخذتها الحكومة الامريكية وتدخلت بموجبها في (حرية رأس المال وحركته).. وهاهنا سؤالان كبيران: هل كان من اللازم حدوث الكارثة لكي تتدخل الدولة؟.. لا.. لأن من وظائف الدولة الأساسية توقع الكوارث ومنع حدوثها وإلا فما معنى الدولة والقيادة؟.. السؤال الثاني: هل يعقل مرددو مقولة (لا يجوز للدولة التدخل في السوق أو الاقتصاد الحر) ـ من أبناء العالم الثالث ـ. هل يعقل لهؤلاء ويتحررون من هذه البلادة أو الدروشة من أجل الاسهام في حماية أوطانهم من مثل مصير الاقتصاد الامريكي؟.. أم أنهم سيصرون على انهم أمريكان أكثر من الأمريكان؟!.. وتمام المقال: ان السطور الآنفة ليست للشماتة في أمريكا، فهذه عاهة لا تخطر لنا على بال من حيث ان اسلامنا دعانا للتطهر الناجز منها، ثم ان لنا مصالح مرتبطة بالدولة الأمريكية، ولذا فإن تمني الشر لها هو تمني الشر للذات من هذا المقام. وإنما كان باعث المقال وهدفه: دعوة الآخرين ـ والذات أيضا ـ الى التحرر من أساطير وأوهام قادت إلى هذه المصائر البائسة.