محاولات براون إطالة حياته السياسية.. لأشهر

TT

خطبة رئيس الوزراء غوردون بروان، الثلاثاء، للمؤتمر السنوي للحزب الحاكم في مانشيستر جاءت أفضل من خطبه السابقة، وان لم تصل لمستوى بلاغة المحامي القدير توني بلير وخفة ظله. خالجني شعور يخلط الشك بالفخر؛ والاعجاب والاطمئنان، بالاشمئزاز والسخرية.

أعجبت بشجاعة الرجل لاستماتته في الدفاع عن موقفه السياسي بعد ان استخرجت اقلامنا الصحفية شهادة وفاته السياسية؛ وباعترافه علنا بأخطائه وحكومته وهو أمر نادر بين الساسة.

لكني اشك في قدرة براون على انقاذنا من أمواج العواصف الاقتصادية.

وشعرنا بالفخر كصحفيين عكست استطلاعات الرأي والنزاعات في كواليس المؤتمر، صحة تنبؤاتنا.

اطمأننت بان نظامنا السياسي الديموقراطي، رغم عيوبه، لايزال الافضل عالميا وتاريخيا، لحرية الفرد وأمنه وسلامة المجتمع وازدهاره.

لدينا قدرة، لا يتيحها نظام سياسي آخر، على محاسبة الحكومة على ادائها علنا وعلى جميع المستويات - ومقابلات رئيس الوزارة المباشرة توضح كيف جلده الصحفيون باستجواباتهم دون رحمة بينما عاصفة تصفيق اعضاء الحزب لم تتلاشى بعد من الذاكرة السمعية.

نستطيع اسقاط الحكومة في صناديق الاقتراع، او اسقاط رئيسها قبل ان يحل موعد الانتخابات بقدرتنا، كسلطة الرابعة على وضع الرجل في قفص اتهام محكمة الرأي العام.

أثار الحزب الحاكم اشمئزازنا «بحركات» السياسة البهلوانية بقرارات هدفها الفرقعة الاعلامية، وايهام الناخب بسخاء الحكومة دون علاج حقيقي طويل المدى لمشاكل الامة.

براون قرر الغاء رسم روشتة الدواء (سبعة جنيهات او 13 دولارا) لـ 25 الف مريض بالسرطان في محاولة لإطالة حياته السياسية بضعة اشهر، بينما تنكر حكومته حق آلاف من مرضى السرطان في اطالة حياتهم الفعلية بضعة اشهر واحيانا بضع سنوات. بحجج شتى وواهية يمنع صرف بعض ادوية مجانا لمرضى مستشفيات وزارة الصحة، بينما تصرف الادوية نفسها في مستشفيات أمريكا وبلدان اوروبا منذ سنوات. السبب الحقيقي توفير النفقات بينما تضيع الميزانية في توظيف «طفيليين» كالاداريين البيروقراطيين الذين يعرقلون مهمة الاطباء والممرضات ولا يقدمون للمريض ما يحسن صحته.

شعرت بالسخرية من لجوء الحزب الحاكم لمحاولة يائسة لانقاذ شعبيته بصعود «الهانم» زوجة رئيس الوزراء، سارة، الى المنصة قبل خطبة زوجها لتاييده، في استعراض مستورد من امريكا وغير مألوف في التقاليد السياسية البريطانية للمؤتمرت الحزبية.

سأل الصحفيون زعيم حزب المحافظين المعارض، دافيد كاميرون ما اذا كانت زوجته، سامنثا، ستقدمه بكلمة في مؤتمر الحزب الاسبوع القادم في برمنغهام، فاجاب بان زوجته ليست وسيلة دعاية لترويج البضاعة.

صحيح ان هوة الفارق في استطلاعات الراي صباح الخميس، بين شعبية الحكومة والمعارضة ضاقت بفارق عشر نقاط، الا ان التحسن مؤقت وسيزول عند انعقاد مؤتمر المحافظين.

عشية مؤتمر العمال كان الفارق في استطلاعات الرأي بين براون وكاميرون، هوة باتساع المحيط الاطلسي مما يعني فقدان نصف الوزراء لمقاعدهم البرلمانية، وفقدان ثلث النواب العماليين الحاليين لمبلغ تأمين الترشيح الذي دفعه لعجزه في الحصول على الحد الادنى من الاصوات.

اثناء المؤتمر كان كل زعيم عمالي يتحسس ظهره بحثا عن مقبض الخنجر كلما لمح نائبا يهمس في اذن واحد منا الصحفيين حتى ولو كنا نتبادل نكتة.

تنفس براون الصعداء في نهاية المؤتمر الاربعاء، فلم نلمح تكرار مشهد بروتوس وقيصر الشهير الذي توقعناه وراهنا بعضنا البعض على من سيوجه الطعنة الاخيرة الى بين كتفي براون الذي بدا «حانوتية» شارع الصحافة نحت كلمات الرثاء على نعشه السياسي الذي دخل مرحلة الصقل والتلميع بعد الانتهاء من تركيب مفصلات غطائه.

لكن ابتسامته تلاشت في اليوم نفسه باستقالة وزيرة المواصلات روث كيللي «بقرار شخصي ولقضاء وقت أطول مع اسرتها» وترجمتها في لغة التعليق السياسي انها قفزت من السفينة قبل ان تغرق، او قبل ان تدفعها «شلة» القبطان الى الامواج اذ كان براون يعد تغيرات في المناصب الوزارية لابعاد اكثر من خنجر بروتسي عن ظهره. اما الاسرة التي ستقضي كيللي وقتا اطول معها، فهم نواب المقاعد الخلفية في الحزب، حيث لاتزال اطراف مؤامرة التخلص من الزعيم تحاك في هدوء بينهم.

الجدول الزمني يكاد يطابق طريقة تخلص المحافظين من زعيمتهم مارجريت ثاتشر اسابيع معدودة بعد خطبتها التي قوبلت بعاصفة تصفيق في مؤتمر الحزب السنوي عام 1990.

تمرد اكثر من دستين من نواب العمال في البرلمان على زعامة براون معبرين للصحافة عن ضرورة التخلص منه لانه سبب انخفاض شعبية الحزب في رأيهم. وزيران (لم تكن كيللي بينهما)، جاهروا بضرورة تقدم منافس آخر على الزعامة. المرشح المتوقع كان وزير الخارجية الشاب، دافيد ميلليباند، مما يدل على استعادة التيار البليري لنفوذه رغم انسحاب بلير من مشهد السياسة الداخلية الى الساحة الدولية كسلام الشرق الاوسط وترسيخ فكرة حوار الاديان والثقافات.

الصراع الداخلي احتدم في حزب العمال بين قبيلتين تكنان لبعضهما البعض العداء اكثر من خصومة كل منهما مع المحافظين. قبيلة بلير، وفكرها السياسي هو امتداد لانجازات سابقيه في زعامة الحزب، نيل كينوك، وجون سميث، اللذان سحبا الحزب من مستنقع اليسار الاشتراكي الذي ينكمش فيه التاييد لخمس عدد الناخبين ممثلين في الاتحادات العمالية – التي حطمت ثورة ثاتشر لتحرير الاقتصاد والانتاج والفرد، نفوذها وانقصت عضويتها – والاقليات من المهاجرين الاقل حظا في الثروة، وحوالي 10% من السكان الاصليين الذين يفضلون الاعتماد على اعانات ومنح الدولة، بدلا من العمل الجاد.

القبيلة الاخرى «شيعة براون» التي ترى انه كان احق بزعامة الحزب بعد وفاة سميث بسكتة قلبية عام 1995، من بلير الذي «سرق» الزعامة بحيلة ميكافيللية، حيث سرب معاونيه ومخططا استراتيجية العمال الجديد، أليستير كامبل، خبير البروباغندا الداهية، وبيتر ماندلسون صاحب الافكار التحديثية، سربا لنا في شارع الصحافة قصة استعداد بلير لرفع راية زعامة العمال، ورتبا اللقاءات الصحفية معه، وجثة سميث لم تبرد بعد في مستشفى القديس بارثولوميو.

عودة الاتحادات العمالية لاستعراض عضلاتها (وكان صدامها مع حكومة جيمس كالاهان العمالية عام 1978 سببا مباشرا في هزيمة العمال في انتخابات 1979) في الاشهر الاخيرة، وسوء تقدير حكومة براون اعادت الروح للقبيلة البليرية للتحذير من ان بقاءه سيجر الحزب الحاكم من الوسط المعتدل الى اليسار الاشتراكي الذي يرفضه الناخب البريطاني.

ومن المتوقع ان يفضل نواب العمال الاحتفاظ بمقاعدهم الانتخابية على الاحتفاظ بزعيم يرون في بقائه تهديدا لهذه المقاعد.

همساتهم لنا في منصة الصحفيين، ستزداد عددا وارتفاعا في النبرة.، وآذاننا صاغية في ترحيب، فدم الساسة مباح في شارع الصحافة.