حمى بولسون

TT

يمكن أن نطلق على ما يجري الآن اسم حمى بولسون، وهو وصف يتسم بعدم الانصاف والدقة في آن واحد. يرجع عدم الانصاف الى أن وزير الخزانة، هانك بولسون، لم يخلق الظروف التي مهدت لاندلاع حالة الفوضى المالية التي تعم البلاد حالياً، ذلك أن الفشل في كبح هذه الفوضى يشترك فيه رئيس هيئة الاحتياطي الفيدرالي، بين بيرنانك. لكن الوصف يتميز بالدقة في الوقت ذاته، ذلك أنه مع سيطرة حالة من الذعر على الأسواق المالية العالمية، انتاب بولسون نفسه الذعر أيضاً. ولم يجد بولسون أمامه حلاً للأزمة القائمة سوى تقديم إعانة مالية هائلة من خلال شراء الحكومة لسندات تنطوي على مخاطرة كبيرة بقيمة تصل إلى 700 مليار دولار. وسيحكم المؤرخون ما إذا كانت الحاجة تستدعي بالفعل اقتراحه الضخم غير المألوف. أما فكرة أنه بمجرد إقرار الكونغرس لهذا المقترح ـ مع افتراض حدوث ذلك ـ سيثمر ذلك إنهاء الأزمة الراهنة بطريقة سحرية فتقوم على الأماني، وليس الحقائق. في الواقع، إن الأميركيين غالباً ما يخدعون أنفسهم بالاعتقاد أن كافة المشكلات من الممكن حلها فقط إذا ما تصرفت الحكومة بجرأة. وربما تمثل الأزمة الحالية مجرد مثال آخر على هذا التفكير. على النقيض مما ورد بالكثير من التعليقات، فإن خطة بولسون لن تكون أكبر تدخل حكومي في الاقتصاد الخاص منذ الحرب العالمية الثانية، حيث لا يزال هذا الوصف من نصيب خطة ريتشارد نيكسون لفرض قيود على الأسعار والأجور في أغسطس (آب) 1971. ومع أن بولسون سيفرض سيطرة الحكومة على كميات غير مسبوقة من الديون الخاصة، فإن نيكسون فرض سيطرة الحكومة على الاقتصاد بأكمله. والمثير في الأمر حجم التشابهات المحتملة بين الحقبتين، بدءا من المفارقة المشتركة، وهي أن كلتا الخطتين خرجتا من جعبة إدارتين ملتزمتين بـ«حرية السوق».

في الواقع، تراكمت الضغوط التضخمية تحت الغطاء الزائف للقيود. علاوة على ذلك، ظلت المبادئ الاقتصادية المعيبة التي تمخضت عن التضخم ـ وهي سياسات المال السهل الرامية للإبقاء على فرص عمل لـ4% من العاطلين ـ قائمة من دون تغيير. وعندما رُفعت القيود عام 1974، قفز معدل التضخم إلى 12%. وخلال الفترة بين عامي 1975 و1981، بلغ متوسط معدل التضخم قرابة 9%. ولم تنته موجة ارتفاع الأجور والأسعار سوى مع تعرض البلاد لحالة ركود اقتصادي شديدة خلال عامي 1981 و1982، التي فرضتها هيئة الاحتياطي الفيدرالي برئاسة بول فولكر وتنامي معدلات البطالة إلى 10.8%.

من جانبه، يؤكد بولسون أن تخليص المصارف من عبء الأوراق المالية المرتبطة بالرهن العقاري المشكوك فيها من شأنه «إزالة العقبات» من طريق النظام المالي وتشجيع النشاطات التجارية الضرورية وإقراض المستهلكين، ربما يحدث ذلك. في الحقيقة، لقد خلقت هذه الأوراق المالية قدراً هائلاً من الشكوك، نظراً لصعوبة تقييمها، وعليه، عمدت المصارف والمؤسسات المالية الأخرى نحو تقليص عمليات الإقراض الروتينية بين بعضها البعض، حيث يشعر الجميع بالقلق حيال أن المصرف الآخر ربما يعاني من مشكلات، لذا، فإن شراء وزارة الخزانة لتلك السندات المالية المرتبطة بالرهن العقاري، ربما يحد من هذه المخاوف. بيد أن المشكلة تكمن في أن المخاوف تمتد إلى ما وراء ذلك، حيث أن الرهون العقارية المرتبطة بالمنازل لم تكن الوحيدة التي تم تجميعها في سندات وبيعها لمؤسسات استثمارية (صناديق المعاشات، شركات التأمين)، حيث جرى تجميع قروض السيارات وديون البطاقات الائتمانية وقروض العقارات التجارية بصورة مشابهة، بما وصلت قيمته إلى 900 مليار دولار عام 2007. وبطبيعة الحال، تفاقمت المخاوف حيال قيمة هذه السندات المالية أيضاً. وربما تستمر عمليات «التحويل إلى سندات مالية»، لكن عمليات الإقراض تراجعت بالفعل (80% عام 2008)، حسبما أوضحت مؤسسة تومسون رويترز. ومن الواضح أن الاعتمادات تواجه أزمة بمختلف أنحاء البلاد، بينما تراجع إصدار سندات الشركات رفيعة المستوى بنسبة 22%، في الوقت الذي تضاءل معدل إصدار السندات «مرتفعة العائد»، التي تنطوي على مخاطرة أكبر بنسبة 65%.

إن ما يتضح أمامنا الآن أن جميع السندات المالية المعقدة، إضافة إلى التدفقات الاستثمارية الدولية المستمرة، خلقت نظاماً مالياً عالمياً «سري للغاية لدرجة جعلت عددا قليلا من الأفراد قادرين على تفهم كيفية عمله»، تبعاً لما أكده ديفيد سميك في كتابه «العالم آخذ في التقوس: الأخطار الخفية أمام الاقتصاد العالمي». إن الاختلاف بين الوضع الراهن وما كان عليه الحال منذ عامين أن المديرين الماليين آنذاك كان لديهم اعتقاد بأنهم متفهمون لطبيعة النظام، أما الآن فهم يعلمون أنهم لا يعلمون. ومن المعروف أن الجهل يتولد عنه الخوف والعزوف عن خوض المخاطر.

ومثلما الحال مع القيود التي سبق فرضها على الأجور والأسعار، لا تحمل الخطة التي اقترحها بولسون علاجاً لجميع المشكلات. من ناحيتها، تحاول المصارف وصناديق التحوط وصناديق الأسهم الخاصة وغيرها من المؤسسات على تقليص المخاطر أمامها من خلال «الحد من نفوذها» ـ حيث تقوم ببيع الأسهم والسندات لجمع أموال نقدية وزيادة رؤوس أموالها والحد من ديونها. ومن المعروف أن الإسراع نحو الحصول على أموال نقدية يعد إحدى السمات المميزة لفترات الأزمات المالية. لكن الحل الذي قد يفيد في مواجهة أزمة مالية ربما يخلف تداعيات كارثية حال تطبيقه على أخرى، ذلك أن عمليات البيع الكبيرة تسفر عن خفض الأسعار، وينجم عن الأسعار المنخفضة تفاقم في الخسائر واستنزاف لرأس المال، ما يدفع نحو المزيد من إجراءات البيع ويزيد المخاوف. في أفضل الأحوال، ربما تساعد خطة بولسون في وقف هذه الدائرة من خلال السماح للمستثمرين بالتخلص من سنداتهم المالية السيئة. إلا أن هذه الخطة لن تؤدي بصورة تلقائية إلى تحفيز عمليات إقراض جديدة أو تنشيط جو «التحويل إلى سندات مالية» أو منع المزيد من «تراجع النفوذ». ويعد الوقت عنصراً ضرورياً الآن، لكن خطة الإنقاذ تجري صياغتها بسرعة كبيرة بدرجة ربما تجعلها منطوية على عيوب متنوعة، مثل منح وزير الخزانة سلطات مفرطة ومنح القضاة المعنيين بإشهار الإفلاس سلطة تعديل الرهون العقارية. والآن، يقف الكونغرس في مواجهة معضلة كبرى فرضتها عليه السوق المالية وبولسون، ذلك أنه إذا أهدر الوقت، فإن ذلك ربما يثير حالة بالغة من الذعر سبق أن تكهن بوقوعها بولسون. لكن إذا أسرع في التحرك، فإنه قد يخلق وحشاً لن تظهر كامل ملامحه سوى بمرور الوقت.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»