العراق: طبقة سياسية تفضل العبث

TT

تجمعت رياح كثيرة وصبت في أشرعة العملية السياسية في العراق لدفعها للأمام، فلجهة الأمن الذي هو الملمح الأبرز تضافرت عوامل عدة وأسهمت بتفاوت فيه، إلا أن اجتماعها كان ضرورياً لتحقيق تقدم في الاستقرار وخفض لمعدلات العنف وبالتالي في إبعاد العراق عن منزلقات خطيرة كان مرشحاً أن يندفع اليها ومن الممكن أن تجعله إما بلداً مقتتلاً أو مفتتاً، أولى هذه العوامل لا شك هي اخذ الحكومة زمام المبادءة واتخاذها لقرارات قوية على الأرض حولتها من فاعل سلبي الى ناشدة ومستعيدة لاحتكار قوة القسر الشرعية عبر رفضها وتصفيتها لما عداها من قوى كانت تنازعها سلطانها، فحازت على ثقة الشعب عندما تعاملت مع الجميع على قدم المساواة مما اكسبها ثقة طالما كانت مفقودة، وثانيهما تعزز قدرات القوى المسلحة والأمنية، وثالثهما انقلاب البيئة الحاضنة في المناطق السنية ومقاتلتها لقوى القاعدة، وازاءها انحسار الميليشيات وقرار قيادة التيار الصدري بتجنب المواجهة والانخراط في العمل السلمي، فضلاً عن عامل زيادة عديد القوات الأمريكية وتحول تكتيكها الى استرضاء وجلب الجماعات المحلية والركون الى الوسائل الناعمة بدل الوسائل الخشنة، أما على مستوى السياسة الداخلية، فقد عاون ذلك وأيضا كان من نتائجه استعادة حد من اللحمة بين القوى السياسية عبر عنه بالعودة للعمل ضمن حكومة الوحدة الوطنية، وابتنى وتحقق ذلك على شعب بسيط مفعم بالحياة ومتطلع للأمل سرعان ما استعاد تشكيل مشهده الاجتماعي واستعادة حياته الطبيعية استجابة لانخفاض العنف رغم انه ظل بالمقاييس هو الأعلى في العالم، أما لجهة دول الإقليم فيمكن تصنيف تغير تعاطيها مع العراق على اتجاهين، الدول التي طالما أسهمت بضخ الفوضى للعراق تحولت لأسباب عديدة الى ضبط سلوكها بعد ان تحقق لها إعاقة الوجود الأمريكي في العراق، وبالتالي لم يعد من مصلحتها ان تندفع أكثر بتدمير العراق بدون ان تظل بمنأى عن تطاير شرار ركامه، والمجموعة الثانية من دول الإقليم التي كانت سلبية ومحجمة فقد بدأت تتفاعل ايجابياً مع العراق وتمد التواصل والتعاون معه وان كان على وجل وتردد بعد ان ادركت بأنه غادر مرحلة الدولة الفاشلة أو تلك غير معروفة المصير، وعلى المستوى الدولي فان الدول الغربية التي كانت تتفرج على المأزق الأمريكي ولا تريد ان تتبرع بنزع الأشواك، أدركت ان عراقاً منهاراً وإن كان بفعل أمريكي، إلا انه لن يظل مشكلة امريكية، ولجهة الإدارة الامريكية فإنها تفاعلت ايجابياً مع هذه الحكومة ووفرت لها من عوامل الدعم الكثير إذا ما قيست بالعزلة والسلبية التي فرضتها على حكومة الجعفري، كما ساعد ذلك مجيء قيادة أمريكية على الأرض أكثر تفهماً أثمرت خطواتها تحسناً نسبياً طال التلهف لسماعه في الولايات المتحدة لكونه سيكون حاسماً في معركة الرئاسة فيها، وأيضاً في تحديد مستقبل قيادتها العالمية، فعبر عن هذا التحسن القائد بيترايوس في احتفال مغادرته العراق، بأنه يتذكر بأنه وصف الحال عندما تسلم قيادة القوات الأمريكية في شهر شباط 2007 بأنها «صعبة ولكن ليس ميئوسا منها»، أما الآن فهي «صعبة لكنها مفعمة بالأمل»، رافق ذلك عوامل أخرى مهمة منها ارتفاع أسعار النفط، وبالتالي مداخيل الحكومة العراقية بشكل غير مسبوق، وحتى ازمة جورجيا التي أضرت بأماكن أخرى في العالم، فانه ممكن النظر لها بأنها نافعة للمفاوض العراقي في إبرام الاتفاقية الأمنية، إذ من غير المرجح أن تذهب الولايات المتحدة الى مجلس الأمن لاستعادة تفويض لن تقدمه روسيا بدون مساومات وأثمان باهظة، لذا ستجد نفسها اكثر استعداداً للتنازل للجانب العراقي للوصول الى اتفاق سيقوي المكاسب العراقية ويقلل الأضرار والقيود على السيادة، وهذا لا شك سيخدم هذه الحكومة في مواجهة معارضين متحينين لها في الداخل وأشرس وأكثر إيذاء يرقبون من الخارج.

إذا كانت كل هذه الرياح المواتية في أشرعة الوضع السياسي العراقي فلماذا لم تبحر سفينته ابعد باتجاه شاطئ الأمان، الجواب المنطقي أن الخلل لا بد أن يكون بربابنة وقادة وطاقم هذه السفينة، فانى يراد لها ان تتقدم عندما تقاد باتجاهات متعاكسة، فالتحسن الأمني هش بدون تقدم سياسي، فقانون الانتخابات الذي أنجز أخيراً في أجواء احتفالية وتوافقية، هو تم بعد أن اخذ أربعة أشهر في المفاوضات لإنجاز مشروع قانون انتخابات فقط ، أما مشكلة كركوك فانه فتح الباب لها ولم يحلها، فأي مراقب لا بد أن شهد بأن أهم ما يعاني منه الساسة والعملية السياسية هو الاختلال المريع في جدول أولوياتهم، لذا إذا ما قيس المنجز على الزمن يكون غاية في التواضع، سبق وصاحب ذلك وسيظل عجز مستمر في توفير الخدمات طال حتى الضروري منها بل رافقه انهيار لما كان قائما على مرأى من الكتل السياسية التي تشكل استثناء عن باقي العالم في العمل السياسي، فهي بدلا من أن تنحاز وتصطف مع معاناة الناس فإنها تحمي وزراءها الفاشلين وتحبط محاسبتهم، ومجلس نواب لم يجرؤ على استجواب ناهيك من أن يقيل وزيرا، وحول هذا الحق بدلا عن ذلك الى الاستضافة، جاعلاً من منصته مكاناً آخر للمؤتمرات الصحفية وإغداق الوعود، رافق ذلك فشل حكومي ورقابي في معالجة الفساد الذي نغمض أعيننا عنه، في الوقت الذي يضعنا فيه التقرير الأخير لمنظمة الشفافية الدولية بالمرتبة الثانية مكرر مع ميانمار في الدول الأسوأ في الفساد، حيث لم يسبقنا إلا الصومال، هذا الفساد الذي وصفته المنظمة بأنه يصبح مسألة حياة أو موت في الدول الأكثر فقراً، لا سيما عندما يكون الأمر متعلقاً بالمال الواجب توفيره للمستشفيات أو المياه الصالحة للشرب. فعندما نتعايش مع ما سبق فهل يعود من غير المنصف وصفنا بالعبث؟؟