الأساس السياسي للحوار الفلسطيني

TT

تقدمت السعودية في مجلس الأمن، وبناء على قرار جامعة الدول العربية، بطلب عقد جلسة خاصة لمناقشة موضوع الاستيطان الإسرائيلي، وبادرت الإدارة الأميركية فورا بإعلان معارضتها لهذا الطلب.

يشكل هذا الطلب السعودي تنفيذا لخطة الدعم العربي للمفاوض الفلسطيني، والتي طلبها الرئيس محمود عباس قبل أسبوعين، ويتضح منذ الآن، أن الموقف الأميركي جاهز لإحباط المسعى العربي من أجل دعم الموقف الإسرائيلي. ويشكل هذا الموقف الأميركي الجديد استطرادا في مسيرة المواقف الأميركية الداعمة لإسرائيل، وهو من هذه الناحية لا يشكل جديدا على الإطلاق، ولكن هذا الموقف الأميركي يأتي أيضا في سياق آخر، هو سياق الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالولايات المتحدة الأميركية، وتهدد النظام الرأسمالي العالمي، وهناك خطة أميركية للإنقاذ، وضعها الرئيس الأميركي جورج بوش، وهو يطلب الآن من الكونغرس الأميركي الموافقة عليها، وعند هذه النقطة بالذات، يكون البيت الأبيض بحاجة إلى اللوبي اليهودي الفاعل في الكونغرس، من أجل ضمان التصويت دعما للخطة، وهنا من المنطقي جدا أن يطلب اللوبي اليهودي ثمنا بالمقابل، والثمن هو رفض الطلب العربي، ومنع مناقشة قضية الاستيطان في مجلس الأمن.

يحدث كل ذلك، بعد، وفي أثناء، إلقاء الرئيس الأميركي لخطاب سياسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، سمي بخطاب الوداع. حاول الرئيس الأميركي في هذا الخطاب أن يقدم جردة حساب عن سنوات حكمه الثانية، يظهر نفسه فيها وكأنه حقق إنجازات سياسية كبيرة. ولكن نظرة متأنية الى الخطاب تظهره على حقيقته، وحقيقته انه خطاب إعلان الهزيمة وهو الذي أراد له عبثا أن يكون خطاب الانتصار. يكفي أن نذكر للدلالة على ذلك مسألتين: الأولى أن الرئيس بوش، وبعد احتلال العراق عام 2003، ألقى خطابه الشهير الذي أعلن فيه انتهاء الحرب وسماه خطاب الانتصار. أما في الخطاب الوداعي الأخير هذا، فقد تحدث فيه عن العراق وقال إن الوضع فيه صعب للغاية. وحين يكون الوضع بعد خمس سنوات من الاحتلال صعبا للغاية، فإن كلمة الانتصار تصبح كلمة غير لائقة، وتصبح كلمة الهزيمة عادية جدا. المسألة الثانية ذات الدلالة هنا، أن وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، التي بذلت جهدا جبارا في السفر، وفي الضغط على الجانب الفلسطيني، وفي رفض الضغط على الجانب الإسرائيلي من أجل إنجاز اتفاق ما، أو اتفاق رف كما كانت تقول، كانت تستعمل في حججها الضاغطة حجة بارزة خلاصتها أن الرئيس يريد شخصيا هذا الاتفاق، لكي يضمنه في خطابه الوداعي أمام الجمعية العامة، كدليل مادي ملموس على نجاح مساعيه من أجل التسوية السياسية للصراع العربي ـ الإسرائيلي. ولكن اليوم المحدد جاء، والخطاب تم القاؤه، ولم يتضمن أية إشارة لا الى اتفاق ما، ولا إلى اتفاق رف، والذين عرقلوا الوصول الى هذا الاتفاق هم حلفاء الرئيس بوش الأساسيون، أي القادة في إسرائيل، الذين رفضوا أن يقدموا له أية صيغة مناسبة في موضوعي عودة اللاجئين والقدس.

وإذا كانت هناك ثمة نقطة ايجابية داخل هذه الظلمة الدامسة، فهي صدمة الموقف الأميركي للموقف العربي. إذ ربما تقود هذه الصدمة الى نفض اليد عربيا من شعار «خيار السلام الاستراتيجي»، والعودة مجددا الى حقائق المنطقة، والى حقائق الواقع التي تؤكد ان الخيار الوحيد مع اسرائيل هو خيار المواجهة، دفاعا عن المصالح العربية، وصولا الى حماية المصالح الفلسطينية. والعكس صحيح أيضا.

وربما يشكل هذا السياق مدخلا لنهج آخر في إطار المصالحة الوطنية الفلسطينية التي يسعى اليها النظام المصري، وبدعم صريح من الجامعة العربية. ومن دون دخول في التفاصيل، فإننا نسمع الآن جملا وكلمات غير مألوفة في الوساطات العربية. نسمع كلمة «الإلزام». ونسمع كلمة «العقاب»، نسمع كلمة «العزل»، ضد من سيعرقل الوساطات العربية. وبديهي ان اية وساطة بين طرفين متخاصمين، تتجه نحو التوفيق، ونحو المهادنة، ونحو فتح صفحة جديدة، ومن شأن أية لغة أخرى أن تخرب الوساطات لا أن تحميها. وإذا انتقلنا من نشاز اللغة الى نشاز المضمون، فإن بعض الفلسطينيين الذين شاركوا في جلسات الحوار الاستطلاعية، ينقلون كلاما، ويروجون لمواقف يقولون إن الاتفاق قد تم عليها. منها أن هناك خطة مصرية أصبحت جاهزة، وستعرض على الجامعة العربية للبت والتأكيد، وسيعاقب ويعزل كل من يرفضها. ويقول عبد الرحيم ملوح (في مقابلة مع جريدة «السفير» اللبنانية)، إن هذه الخطة تقوم على مرحلتين، مرحلة الإجراءات العملية، ومرحلة النقاش السياسي حول إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وحول الميثاق، على أن يتم في المرحلة العملية تشكيل حكومة جديدة، وتنظيم انتخابات جديدة، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة النقاش السياسي، وفحوى هذا الاقتراح إن كان صحيحا، ونشك أنه صحيح، هو تغيير الواقع في غزة، وحين يتم تغيير الواقع يبقى الحال سياسيا على ما هو عليه، إنما يتحقق هدف واحد وهو إبعاد حركة حماس عن الحكومة، ثم تأتي الانتخابات التشريعية وفي خلفيتها أن حركة حماس ستخسرها. وهي خلفية تنطوي على احتمالات التزوير، كما عبر عن ذلك مسؤول كبير في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأدت أقواله الى إثارة غضب سليم الزعنون (أبو الأديب) رئيس المجلس الوطني الفلسطيني. إن منهجا من هذا النوع، حتى لو تحقق، سيعمق الخلافات الفلسطينية أكثر مما يشكل حلا لها، ويحول الوساطة العربية الى نوع من أنواع الخصوم، بدلا من أن تكون ملاذا دائما للوساطات الخيرة.

وفي السياق نفسه لا بد من القول، إن قضية الانتخابات، سواء كانت رئاسية أو تشريعية، هي قضية سياسية بالأساس، وليست قضية فقهية أو قانونية إلا في مظهرها. إن المصالحة الوطنية هي التي تقود الى انتخابات رئاسية ناجحة، وبعيدا عن المصالحة الوطنية، وفي ظل الحديث عن العزل والعقوبات، تتعقد قضية انتخابات الرئاسة، وتصبح قضية خلاف بامتياز.

ولا بد من القول أخيرا، إنه لا يمكن التحاور حول إجراء انتخابات رئاسية، بينما يسمح لرؤساء أجهزة أمنية أن يهددوا بحل قضية غزة من خلال عمل عسكري مضاد. فالذين ينتقدون ما جرى في غزة، وعلى قاعدة أنه حسم عسكري مرفوض، لا يمكن لهم أن يهددوا باستعمال الوسائل نفسها، وأن يبقوا في الوقت نفسه بمنأى عن النقد والمساءلة، وبخاصة أن الموقف الأميركي السلبي من التحرك العربي باتجاه موضوع الاستيطان الصهيوني لا يبشر بأن إنجاز حوار غير متوازن، سيؤدي الى تحرك دولي جديد يدفع التفاوض الفلسطيني ـ الإسرائيلي باتجاه الحسم. وهذا يعيدنا مرة أخرى الى أهمية التأكيد على أن جوهر الحوار الفلسطيني هو حوار سياسي قبل أن يكون أي شيء آخر.