الحارس

TT

سمعت وقرأت عن ذكاء الكلاب ووفائهم، وهناك حوادث تقترب من درجة الخيال عندما يتمعن بها الإنسان، مثل تلك الكلبة التي يُقال لها: (بوتشي)، وقد اقتناها جندي في فرقة تقاتل في الجبهات الأمامية، وكان لا يفارقها ولا تفارقه، تنام بجانب فراشه، وتأكل من بقية طعامه، ولا تتركه سواء كان متمترساً داخل خندق، أو متقدماً تحت وابل وأزيز الرصاص، وصادف أن صاحبها الجندي أصيب إصابة بالغة في الخطوط الأمامية، وتقهقر زملاؤه وبقي وحده طريحاً مخضباً بدمائه، وحاولوا في ما بعد إنقاذه غير أنهم لم يهتدوا لمكانه.

وفي ثالث يوم وإذا بالكلبة (بوتشي) تأتي إليهم متعثرة بالظلام، وفمها مقرّح تسيل منه الدماء وهي قابضة بأنيابها على الخوذة الحديدية التي كان يعتمرها صاحبها الجندي، فأخذوها منها، وأخذت تنبح عليهم وكأنها تقول لهم: اتبعوني.

وفعلاً تبعوها وإذا بها تقف بهم على صاحبها الطريح الذي كان في الرمق الأخير، وحملوه وعالجوه، ولولا كلبته الذكية الوفية لكان قد قضى نحبه.

ولتأثري بمثل هذه الحكايات، اقتنيت أو بمعنى أصح اشتريت من أحدهم كلبا توسمت فيه الكفاءة، لضخامة رأسه، ولحجمه الكبير الذي لا يقل عن حجم الحمار، وهو مثلما عرفت من فصيلة مهجنة، واسمه (لابا)، وفرحت به معتقداً أنه أفضل وأكفأ حارس لي و(لشاليهي) الذي أملكه على البحر.

غير أن فجيعتي به كانت كبيرة، عندما توضح لي أنه أغبى وأجبن كلب على وجه الأرض، وهو قد قلب المعادلة المتعارف عليها رأساً على عقب، فالكل يعلم أن الفأر يخاف من القط، والقط يخاف من الكلب، لكن هل تصدقون أن (لابا) هذا يخاف من القطط إلى درجة أنني أضع له الأكل وأغلق عليه (الشبك)، لأنني لو لم أفعل ذلك تهجم القطط على أكله وتطرده منه.

وتأكد لي خوفه الفظيع عندما أجريت تجربة اختبار له، حيث اتفقت مع صديق أن يأتي إلى (الشاليه) بعد منتصف الليل، ويتسلق الجدار ويدخل على أساس أنه لص، لكي أتيقن من ردة فعل الكلب.

وفعلا تسلق الصديق الحائط وقفز إلى داخل الحوش، فما كان من الكلب إلاّ أن يولي الأدبار فراراً، وينجحر منبطحاً تحت أخشاب مكومة في زاوية الحوش كاتماً أنفاسه وكأنه ميت.

وعرفت ساعتها أنني اقتنيت أخيَب حارس، وما نابني غير دفع ثمنه وتغذيته وتسمينه.

نسيت أن أقول لكم إنه لم يفلح بشيء، وأن شجاعته لا تظهر إلاّ عندما يشاهد ويسمع صوت طائرة محلقة بالسماء، عندها يرفع رأسه ويأخذ ينبح عليها وكأنه يريد أن يسقطها.

وبقي عندي ما يقارب الثلاث سنوات، وفي إحدى الليالي خرج إلى الشارع العريض كعادته، لكنه لم يرجع بعدها، وأظن والله أعلم أن أحدهم كان يمر بسيارته، وعندما شاهد ذلك الحجم الهائل والشعر الكثيف اعتقد أنه وقع على غنيمة ثمينة لا تتكرر، ويبدو أنه أغراه واستدرجه وأركبه بسيارته وهرب به، وأكيد أن الدنيا في تلك اللحظة لم تكن تسعه من فرط السعادة، لكن كلها أيام وتتكشف له الحقيقة.

ذهب (لابا) غير مأسوف عليه، وارتاح ضميري لأنني لم أسئ له يوماً، ولا أجعته يوماً، ولا طردته كذلك، هو الذي ذهب بملء إرادته، والله يستر عليه.

وأصبح (الشاليه) الآن بدون حراسة، ومن أراد أن يسطو عليه (فالله يحييه)، فالجدار قصير لا يزيد ارتفاعه عن مترين، وتسلقه في منتهى السهولة.

[email protected]