«مولد» الأستاذ

TT

في عز الأزمة المالية العالمية الكبرى، فردت الصحافة المصرية معظم صفحاتها ليس للانهيار العظيم، ولكن للاحتفال بـ«مولد» الأستاذ محمد حسنين هيكل في الثالث والعشرين من سبتمبر 1923. لم تكن الصحافة المصرية تحتفل بميلاد أي مصري بهذا الصخب من قبل، فهل الصحافة اليوم هي صالة احتفالات أم وسيلة معلومات؟ بداية من تاريخ الميلاد ومكانه، أشكك بكثير مما يقال عندنا وأنطلق في ذلك ليس من الكتب والدراسات، وإنما من الخبرة الشخصية المباشرة.

كمثل الأستاذ هيكل، ولدت في شهر سبتمبر، ليس في نفس يوم «مولد» الأستاذ، ولكن في الثالث منه، هذا ما تقوله الأوراق الرسمية الحكومية، ولكن القول ليس ما تقوله الأوراق، سواء أكانت حكومة أم صحافة. فسجل تاريخ ميلادي، ليس يوم ولدت حقيقة، وتلك هي المفارقة. في أحاديث تكررت بيني وبين والديَ، كان هناك التباس كبير ليس حول يوم ميلادي فقط وإنما حول أيام ميلاد إخوتي الستة جميعا. كانت أمي تقول إن ميلاد أخي الأكبر، كان «يوم طفي النور»، عندما صدرت الأوامر لأهل القرية بأن يطفئوا الأنوار لأن طائرات معادية تغير على البلد، وهذا يضع ميلاد أخي الأكبر أثناء حرب 1956. ومع ذلك يختلف والديَ عن أي ولد يتحدثان، هل هو الأكبر الذي عاش، أم الطفل الأول الذي يكبره بثلاثة أعوام ومات! وهكذا سجل تاريخ ميلاد أخي الأكبر في الأوراق الرسمية، على أنه من مواليد 1959، وبكل تأكيد لا أحد منا يعرف الشهر أو اليوم، فنحن قوم لا نحتفل بأعياد ميلادنا ليس لأننا لا نهتم أو لأننا ضد الفرح، وإنما ببساطة لأننا لا نعرف متى ولدنا بالضبط. أخي الأصغر، أيضا، لا نعرف ميلاده بالتحديد. تعودنا أن نقول عنه انه ابن النكسة، أي أنه ولد يوم في الخامس من يونيو 1967، حتى دخلنا المدرسة وعرفنا أنه مسجل في 5 يوليو. فهل ولد في يونيو وسجل اسمه في يوليو؟ ربما!

كان أبي يصر دائما على أن تواريخ ميلادنا المكتوبة صحيحة. «يا ولدي في الأيام اللي راحت، كان لازم أسجلكم في الميعاد، لأن صرف التموين كان على البطاقة العائلية، وما لم أسجلكم لم أكن لأحصل على الشاي والسكر والدقيق». كان الدافع لتسجيل أسمائنا في مواعيدها هو استمرار الحياة، بمعنى الحصول على الغذاء. «بس إحنا مكناش محتاجين دقيق الحكومة، كنا نزرع الأرض، وكان فيه طاحونة في البلد، وعمرنا ما أكلنا من دقيق الحكومة، ولا العيش المصري»، قالت أمي. كانت أمي، وربما أهل القرية جميعهم، تسمي الرغيف الذي يأكله المصريون في المدن اليوم بـ«العيش المصري»، أما نحن فكنا نأكل العيش الكبير المدور أو أبو قرون، للرغيف أربعة قرون كقرون البقر، وهو ما يسميه أهل القاهرة بالعيش الشمسي. القصة ليست العيش، وإنما التوثيق للمعلومات من تسجيل المواليد حتى الرغيف. ضبابية تغشى الاثنين، العيش والميلاد، فنحن مصريون مثل غيرنا ولم تسجل أسماؤنا في مواعيدها. كانت الأسرة لا تشطب أسماء الذين ماتوا من البطاقة العائلية حتى يصرف لهم تموينها، وكان ينتظر الأب أن يرزقه الله بولد ثان، ليستمر باسم أخيه الذي مات. وبذا يكون سن المولود الجديد أكبر من عمره الحقيقي بعامين أو ثلاثة، له اسم في الشارع واسم في الحكومة «مكتوب على أخوه اللي مات». أما البنات فكانوا يسننونهم تسنينا، أي تقدر أعمارهن من فحص أسنانهن، مرة بعمر أكبر اذا خطبت للزواج، أو بسن أصغر إذا ظن القوم أن قطار الزواج «قرب يفوتها». تلك هي مصر في جيلي وما سبقه، لم تكن دقيقة في تواريخ الميلاد. والأستاذ هيكل من جيل آبائنا، فمن أين أتت هذه الثقة في تاريخ ميلاده؟ ولكنها الأساطير نصنعنها عمن نحب ومن لا نحب.

«اسمك إيه في الحكومة؟».. هكذا باغتني المدرس في السنة الأولى الابتدائية، لأن أخي الأكبر كان قد دخل المدرسة قبلي بعامين، وكان اسمه فتح الباري عابد موسى، وكان اسمي (وأنا أخوه الشقيق) مأمون حمزة فندي، كنا نعرف أن اسم أبي هو الحاج عابد، وفوجئنا بأن اسمه «في الحكومة» حمزة، وكان أحد أصدقائه يضحك كثيرا عندما يناديه في الصباح «صباح الخير يا حاج حمزة»، وكأنه كشف سره أمام أهل القرية. لم أكن أتصور أن لوالدي يوم ميلاد، كنت أحب أن أراه قد جاء إلى الدنيا هكذا، بطوله الفارع ووجهه الجميل، كما أراه بعيني. النقطة الأساسية هنا هي أنه حتى أسماؤنا كانت تكتب بطريقة ليست على هوانا، فما بالك بتواريخ ميلادنا؟

أذكر أن أحد التلاميذ في المدرسة جلس معنا طوال اليوم الأول في المدرسة ولم يناد على اسمه في كشوف الحضور، وكنا أطفال القرية نعرف جميعا أن اسمه سمير. «أنا اسمي مش مكتوب»، قال سمير. «لا يا بني اسمك مش مكتوب في الكشوف» قال المدرس. بكى سمير وعاد الى المنزل يشكي الأمر لوالده. ترك والد سمير المنزل في خفة الريح قاصدا دار (عم صادق)، وهو الرجل الذي «يعرف يقرا ويكتب واللي بيسجل أسماء العيال في السجل المدني»، ليفهم منه لماذا لا يوجد اسم ابنه في كشوفات التعليم الإلزامي. فقال عم صادق: «يا أخي أنا فكرت في اسم سمير، وقلت في نفسي يا ترى يا صادق، إيه ذنب الواد لما يكبر وتبقى له شنبات، والناس تناديه يا سمير، دا اسم رجالة برضه؟ فسجلته باسم عبد الفتاح، اسم راجل ويملى الخشم كده»..(الخشم هو الفم بلهجة أهل الصعيد) «عندك حق» أجابه أبو سمير، الذي أصبح الآن اسمه أبو عبد الفتاح. عندما حكيت القصة لصديق لي يدعى أشرف عبد الفتاح، وهو ليس من قريتنا، ضحك وقال ربما أنا أيضا اسمي الحقيقي هو أشرف سمير.

إذا كانت عائلة الأستاذ هيكل قد سجلت اسم ابنها بالضبط، بالساعة والدقيقة، في عام 1923، في حين فشل أهالينا في الصعيد في تسجيل التواريخ والأسماء حتى عام 1967، ونحن في بلد واحد اسمه مصر.. فهذا يعني، أول ما يعني، أن التطور في مصر لم يكن متساويا، وأن التطور الذي مكن عائلة هيكل في القاهرة أو ربما في الدلتا (لأن التقارير لم تقل لنا بالتحديد أين ولد الأستاذ حتى أن بعض التقارير تقول إن أصوله من الصعيد) من تسجيله بهذه الدقة عام 1923 لم يصل قرى الصعيد إلا عام 1967، «وإحنا كقرية أحسن من غيرنا بكثير»، معنى ذلك أن فارق التقدم بين الدلتا والصعيد هو أربعة وأربعون عاما، نصف قرن تقريبا، معقول!

كنت أتمنى على الصحافيين المحتفلين بعيد ميلاد الأستاذ، أن يوثقوا لميلاده بجد، هذا إذا كانت الصحافة مازالت عندنا مهنة توثيق. جزء مهم من الصحافة هو توثيق المعلومات وتحري الدقة فيها، لا «طق حنك» على رأي الشوام، أو مجرد «رغي وخلاص» كما نقول في مصر، فمن المفيد عندما تعد الصحافة السيرة الذاتية (بروفايل) عن شخصية هي محط اهتمام الجمهور، أو هكذا يراد لها، أن توثق المعلومات حول هذه الشخصية بطريقة علمية لا احتفالية. فهل سألت الصحافة التي زغردت لعيد ميلاد الأستاذ، «إيه كان اسمه في البلد؟»، وإيه كان «اسمه في الحكومة؟».

من المرجح جدا أن يكون للأستاذ مثلنا اسم في البلد واسم في الحكومة. ليس كل من اسمه محمد عندنا كان هو الاسم الذي اختاره له أبواه، فعندنا في البلد أسماء مثل «كرموش» و«الدهل» و«المخربط»، معظمهم اكتشفوا أن اسمهم محمد «في الحكومة» لما دخلنا المدرسة الابتدائية، ونادى المدرس على أسمائنا حسب الكشوف الرسمية. وليس من الممكن أنه في سنة «تلاتة وعشرين»، التي ولد فيها هيكل، قد سجلت عائلته اسمه في اليوم والساعة، وخصوصا أنه في سنة «تلاتة وعشرين»، في عز الليبرالية ودستور 23 المشهور، لم تكن هناك بطاقات تموينية ولا صرف شاي ولا سكر عليها، فلماذا أسرعت عائلته بتسجيل اسمه في التو واللحظة؟ سؤال لا يمكن أن يجيب عليه إلا الأستاذ بنفسه.

أما سؤالنا نحن: هل صحافتنا هي صحافة معلومات أم صحافة احتفالات وتكاذب؟ كتبت في السابق أن الصحافة تشبه المجتمعات التي أنتجتها، كثير من صحافتنا اليوم لا تبدو نتيجة لتخلف مجتمعاتنا، إنما أصبحت هي أهم أسباب تخلف هذه المجتمعات.