صانعو القنابل.. المحتجّون على الصلاة!

TT

حين قرّرت الولايات المتحدة بيع ألف قنبلة لإسرائيل قادرة على تدمير المباني والمنشآت، وعندما زوّدتها بمليون قنبلة عنقودية قبل أيام من انتهاء حربها على لبنان لتحصد أجساد وحياة الأبرياء من المدنيين العرب، لم نسمع كلمة اعتراض دولية واحدة، ولم يسافر آلاف اليمينيين الأوروبيين الغاضبين من «انتشار الإسلام» ليقيموا مظاهرة ضدّ قنابل أثبتت فتكها بالأطفال والنساء والرجال الأبرياء خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006. ورغم أنّ مئات من الأطفال والنساء والرجال، منذ ذلك الحين، قد فقدوا حياتهم، أو طرفاً من أجسادهم، حتى بعد انتهاء ذلك العدوان، فإنّ ضمير العالم الغربيّ لم يتيقّظ لخطورة هذه الحرب المستمرّة على حياة البشر. ولكنّ قرار بناء جامع في مدينة كولون الألمانية، كي يذهب المسلمون، الأوروبيون أو المهاجرون إليه، لأداء فريضة الصلاة فيه، أثار ذعر وغضب واحتجاج المئات من اليمين الأوروبي، فانتقلوا من فرنسا وبلجيكا وسويسرا وهولندا للتظاهر ضدّ بناء جامعٍ يُعبد فيه الله الواحد الأحد، حاملين لافتات كُتب عليها «أوقفوا انتشار الإسلام». وفي منظر مشابه ومنذ بداية رمضان الكريم، وخاصّة منذ الجمعة الأولى في رمضان، تصلنا صور آلاف الفلسطينيين التوّاقين لأداء الصلاة في المسجد الأقصى، بينما تقف لمنعهم، دون أيّ مبرّر أمني، جحافل من الجنود الإسرائيليين المدجّجين بكلّ أنواع السلاح، فتسقط سيدة عربية تقدّم بها العمر شهيدة القمع الوحشيّ لهؤلاء الجنود الذين ارتكبوا، كعادتهم، جريمة قتلها ضرباً حتى الموت. والغريب هو أنّ الانطباع الذي يروّجه الإعلام الغربي هو أنّ هذه العجوز الفلسطينية العزلاء من كلّ سلاح، أو هؤلاء المدنيين العرب من المصلّين القادمين إلى أحد أقدس المساجد لدى المسلمين فقط للركوع والسجود والدعاء لله عزّ وجلّ، يُنظر إليهم وكأنهم مصدر الخطر، ويرفض كلّ هؤلاء الإعلاميين والسياسيين الغربيين أن يروا تلك القنابل الفتّاكة، وجرائم الجيوش الغربية الغازية، وعنف أولئك الجنود الإسرائيليين والأمريكيين المدجّجين بكلّ أنواع الأسلحة الفتّاكة، والذين لا يتردّدون باستخدامها في التنكيل والقتل. أما نحن الضحايا فنراهم كلّهم مصدر الخطر، وهم المعتدون، وهم المحتلّون، وهم الذين ينشرون الرّعب والإرهاب ضدّ المدنيين الأبرياء فيبيدون عوائل كاملة بالقصف الجويّ، وينكّلون بالذين يرغبون بأداء الصلاة إلى الباري عزّ وجل في هذا الشهر الفضيل في مسجدهم. والغريب في الأمر هو أنّ هذا الغرب الذي يحاضر دائماً على الشرق بضرورة معاملة المرأة المسلمة بشكل أفضل، هو ذاته الذي يعامل المرأة والرجل المسلم أسوأ معاملة إنسانية، ويُحاول حرمان كلّ المسلمين نساءً ورجالاً من أبسط حقوقهم الإنسانية والروحية. فهل أبسط من حقّ الإنسان في الصلاة في مسجد يخصّه؟ وهل أجمل من توق الإنسان إلى لقاء وجه ربه؟ أما إذا كان الجواب بأنّ بعض المتطرّفين استغلوا الجوامع لتنظيم أعمال عنف، فإني أشتبه بالحركات المتطرفة في كلّ الأحوال حيثما كانت، وأنّى كان مقصدها، ومن أيّ دين كان. فالإسلام هو دين التسامح والاعتدال، وهو الدين الذي حرّم قتل النفس الإنسانية، والذي اعتبر أنّ «أكرمكم عند الله أتقاكم». فبإسم أيّ إسلام يتصرّف المتطرّفون والمتعصبون والكارهون؟ ومن خلال مراقبة ما جرى وما يجري منذ أحداث الحادي عشر من أيلول على مستوى المتطرّفين والردود السياسية ضدّ المسلمين، يستنتج أيّ عاقل أنّ هناك رابطاً وثيقاً بين ما يقوم به المتطرّفون من أعمال عنف، وبين ما يقوم به أعداء الإسلام من جرائم وحشية ضدّ المدنيين المسلمين الأبرياء. وإذا كان الغرب اليوم يدير معظم حروبه عن طريق الاختراقات المخابراتية، وشراء الذمم، فليس من المستغرب أبداً أن يكون التطرّف الذي نشهده في ديارنا أو باسمنا، والذي استُخدم ذريعة من قبل المتطرّفين اليمينيين من المحافظين الجدد، المشبعين بالتطرّف الديني أو تكفير أتباع الأديان الأخرى، وخاصّة المسلمين، لمحاربة المسلمين، واستصدار القوانين العنصرية ضدّهم، وحرمانهم من حقوقهم في الغرب، وشنّ الحروب الوحشية ضدّهم في الشرق. ليس من المستغرب أبداً أن يكون هذا التطرّف مصاب بأهمّ اختراق حقّقه أعداء العرب بين ظهرانيهم، خاصّةً أنّ حركات التطرّف كانت مزروعة في بلداننا قبل أحداث الحادي عشر من أيلول لمحاربة النهضة العربية من أجل الوحدة، فكم قتل المتطرّفون من المفكّرين العرب، وكم زرعوا القنابل في أسواقنا وشوارعنا؟

كم كنّا نعتقد أنّ هذا الغرب الديمقراطيّ فُطر على المحبة، والتسامح، واحترام الآخر، والتعايش مع كافة المعتقدات والديانات. تخيّلوا لو أنّ بلداً مسلماً رفض إشادة كنيسة؟ هل يعقل أن يتوجّه المسلمون والمسيحيون للعبادة في الجامع الأموي لمدة عشرين سنة في القرن السابع الهجري، ومن ثمّ يجلسون للتفاوض ما إذا كان سيبقى كنيسة أو جامعاً، وحين قرّروا أن يبقى جامعاً اتُّخذ القرار ببناء كنيسة ملاصقة له وهذا ما حدث، بينما تصدر اليوم في القرن الواحد والعشرين قوانين في أوروبا تمنع بناء جامع على بعد أقلّ من ثلاثة أميال من أيّ كنيسة؟ بالإضافة طبعاً إلى قوانين أخرى تمّ سنّها للحدّ من انتشار الإسلام، وكلّ ما تفعله هو تغذية الفضول لدى الآخرين للتعرّف على الإسلام الذي لا شكّ أنه يسحر من يتعرّف عليه عن قرب وبصدق ونزاهة، ولذلك فإنّ كلّ الإجراءات التي تُتّخذ ضدّ المسلمين تزيد الإسلام انتشاراً، وإلا كيف يمكن أن يصبح اسم «محمد» ثاني اسم بين مواليد بريطانيا للعام 2007، وأن يصبح القرآن الكريم أكثر الكتب مبيعاً في هولندا حيث ظهرت الرسوم الكاريكاتورية المسيئة الذكر؟

في السياسة، كما في الدين، والسياسة والدين مرتبطان هنا، يعمل مستهدفو هذه الأمة بناءً على فرضية أنها من صنف الهنود الحمر وأنه من السهل إبادتها، فيسرقون آثار بابل والبصرة والجامع المملوكي في مصر، وآثار من هنا وهناك، ويقتلون علماء ومفكّرين، ويقنصون بعض خيرة أبنائها من فنانين وكُتّاب من ناجي العلي، إلى غسان كنفاني... ويرتكبون المجازر خوفاً ممن يؤمنون بالأرض والزيتون، ويمنعون آلاف الطلبة من ارتياد المدارس كي لا يظهر محمود درويش آخر، ولكن غسان كنفاني يتحوّل إلى أيقونة، وناجي العلي إلى مؤسسة، ومحمود درويش إلى ظاهرة تعمّ كلّ من ينطق العربية ويعشقها، وتلد هذه الأمة آلافاً لتعوّض عن كلّ عالم أو كاتب أو مفكّر تمّ اغتياله مثبتةً باختصار أنها أمة خالدة عصية على الاندثار، وأنّه لا يمكن لأحد أن يحكم عليها بالإعدام مهما بلغت ترساناتهم العسكرية وعدد قنابلهم الذكية والنووية. فالأمة العربية باقية لا محالة، مع أنّ هذا الظلم يسبب الكثير من الألم لأبنائها، ولكنّ المخجل هو أن يصمت العالم، الذي يدّعي الديمقراطية والحرية والتحضّر، عن القنابل والعنف والموت والقهر الذي تسببه حروب حكامهم المتطرّفين، ويمينييهم الغارقين في عمى العنصرية، والذين يتظاهرون في كولون ليحتجّوا على بناء مسجد يهدف إلى تعزيز روحانية الإنسان والتواصل مع الخالق.

ورغم كلّ الإجراءات القمعيّة الوحشية التي تتخذها إسرائيل، والتي لا تمتّ إلى أيّ شكل من أشكال التحضّر أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان بصلة، يتّجه كلّ يوم جمعة في رمضان أكثر من مائة ألف مصلّ ويتحمّلون عناء الحواجز والعطش والقمع والجوع والإهانة والتّنكيل من قوات الاحتلال الإسرائيلية ليغسلوا آثام مضطهديهم بصلاة تبتهل إلى الله العليّ القدير، وتسأله الحرية من جلاديهم، والكرامة في الدنيا والآخرة. ومهما أنفق المتطرّفون على صناعة القنابل، وتسليح الجيوش، والقمع الإرهابي المعادي للعرب، ستبقى تلك الحرارة النابعة من أعماق أمتنا، وذلك الإيمان بالحرية أقوى من كلّ أسلحتهم، وأعتى من كلّ قمعهم. وسوف يتّحد المؤمنون بالله وبحرية الإنسان ضدّ مروّجي العنف والحرب والقتل والدمار سواء أكان اسمهم النازيون الجدد، أم اليمينيون، أم المتطرّفون، أو المتشدّدون، فهم جميعاً، دون شكّ، أعداء إنسانية الإنسان وحريته وكرامته وسموّه.

www.bouthainashaaban.com