المشروع العربي ولبنان في ظل التحولات الكبرى

TT

عقب ثورة العام 1958، ساهم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في عودة الاستقرار إلى لبنان، خاصة بعد اجتماع الخيمة مع الرئيس الراحل فؤاد شهاب على الحدود السورية اللبنانية.

وإذا كانت مصر تحكم لبنان عن بُعد أيام الرئيس فؤاد شهاب عبر سفيرها عبد الحليم غالب، فقد حكمت سورية لبنان مباشرة عبر رئيسي مخابراتها في عنجر اللواء غازي كنعان، وبعده العميد رستم غزالة.

كذلك، رحم الله الرئيس أنور السادات، عندما قال: «ارفعوا أيديكم عن لبنان». وهو بالطبع يعني العرب.

رحل الرؤساء الثلاثة، وبقي لبنان، وبقي التدخل العربي فيه. لكن الإضافة الجديدة على الساحة اللبنانية ليست عربية إنما إيرانية. كذلك، لم ير الرؤساء الثلاثة نهاية الحرب الباردة، و11 أيلول واحتلال العراق. ولم يكونوا يحلمون بالطبع أن تصبح أميركا جارة كل من سورية وإيران.

هل كانت إيران بعيدة عن لبنان قبل الثورة الإسلامية؟ بالطبع لا، فلبنان كان من ضمن الصورة الكبرى لإيران، فقط لان الساحة الأساسية والتاريخية لامتداد الامبراطورية الفارسية، لم تكن يوما إلا بالاتجاه العربي ـ الشرق أوسطي. وقد يكون سبب ذلك، الدور المهم الذي تلعبه الجغرافيا الإيرانية ـ المنطقة المفتوحة جغرافيا، والأسهل لإيران، هي عبر العراق ـ في تحديد استراتيجياتها الكبرى.

فقد غير الشاه سياسته تجاه المنطقة، خاصة بعد نكسة العام 1967، وبالتالي، أفول نجم العروبة بعد أفول نجم قائدها جمال عبد الناصر، الأمر الذي حدا بغولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل الى القول: «لقد خسرنا الشاه».

كيف تبدو الصورة الجيوبوليتيكية الكبرى للمنطقة؟

تبدلت صورة المنطقة جذريا وذلك خلال فترات قصيرة نسبيا. فما أن كانت المنطقة تستقر على نظام ما، حتى تأتي تغيرات جذرية لتعيد خلط الأوراق.

سقط الاتحاد السوفياتي، تبدلت المنطقة. اجتاح العراق الكويت فكانت الحرب عليه، أيضا تبدلت المنطقة. وقعت كارثة 11 أيلول، فكان اجتياح العراق، أيضا وأيضا تبدلت المنطقة. وأخيرا وليس آخرا، تعثرت أميركا في العراق لمدة خمس سنوات، فكانت نتيجة هذا التعثر، أيضا تبدلات في موازين القوى في المنطقة. خاصة أن احتلال العراق وتغيير النظام فيه بعد تغيير النظام في أفغانستان، قد أدى إلى تحول في موازين القوى في العراق بين الشيعة والسنة، بحيث أصبح الشيعة هم الغالبية، الأمر الذي أعطى إيران مساحة واسعة من القدرة على التأثير في الساحة العربية. كذلك، أيقظ هذا التحول كل تاريخ الصراع بين المذهبين. وبدل أن يكون العرب ضد الفرس كما حصل في الحرب العراقية ـ الإيرانية، تحولت إلى شيعة ضد سنة اليوم، هذا مع اعتقادنا الراسخ والثابت، إن للصراعين صورة آيديولوجية حتما، ولكن للصراع بُعد مهم يتعلق بالمصالح الجيوبوليتيكية.

إن الحديث عن المشروع العربي في مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين، وعملية تحرير الكويت، هو موضوع يتعلق مباشرة باللاعب الأكبر في المنطقة – القوة المُديرة: الولايات المتحدة.

كلما تحركت أميركا، تحركت المنطقة وتغيرت. ونتيجة لذلك، تتغير المنطقة وضمن المشروع العربي. فماذا عن بعض المراحل؟

1 ـ لم يوافق اغلب العرب، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية على إطاحة نظام صدام حسين. فالخوف السعودي كان من مرحلة ما بعد صدام. كيف سيحكم العراق؟ من سيحكمه؟ وما هو دور السنة فيه؟ وما هو الدور الإيراني؟ هذا مع التشديد السعودي على أن سقوط العراق سوف يفتح الباب واسعا للتأثير الإيراني على الضفة الغربية للخليج العربي... طمأنت أميركا العرب الى نجاحها الأكيد فغاب المشروع العربي نظريا وعمليا.

2 ـ بعد التعثر الأميركي في العراق، وازدياد التأثير الإيراني، شعر العرب بأن عليهم اخذ الأمور بيدهم، لان أميركا أصبحت عاجزة عن فرض الحلول. فكان التقارب مع إيران، الانفتاح على الصين كما على روسيا، هذا عدا المبادرات باتجاه استرداد القضية العربية من يد إيران. أتت نتائج حرب تموز على لبنان العام 2006، لتشل المشروع العربي، ولتؤكد تراجع القدرة الأميركية في المنطقة.

3 ـ تحسن وضع العراق امنيا، وصل بوش إلى نهاية عهده، تعثرت أيضا أميركا في أفغانستان، ووقعت الحرب على جورجيا. وبهذا التحول الكبير سوف ينتقل الاهتمام الأميركي بالطبع نحو رسم استراتيجية كبرى جديدة للتعامل مع روسيا وغيرها، وبذلك سوف تتراجع أهمية المنطقة. من هنا، بدأ اللاعبون الإقليميون الكبار بأخذ أمور المنطقة على عاتقهم. وإلا فماذا يعني قول الرئيس التركي عبد الله غول، عقب الحرب على جورجيا، ان أميركا أصبحت عاجزة عن حل الأمور وحدها وعليها مشاركة الآخرين؟

إذاً حال المشروع العربي وباختصار، هو على الشكل التالي:

1 ـ محاور متعددة متصارعة، أهمها: سورية ـ إيران من جهة، مصر ـ السعودية من جهة أخرى.

2 ـ في ظل هذين المحورين، يدور اللاعبون الصغار، لبنان، السلطة الفلسطينية، حماس، حزب الله، كما العراق.

3 ـ في مكان آخر، تلعب تركيا اليوم في المشرق العربي دورا فريدا، خاصة بين سورية وإسرائيل.

4 ـ لكن معضلة المشروع العربي تكمن في الآتي:

أ ـ إذا كان هناك مشروع عربي، فهو حتما نظري حتى الآن. لا بنى تحتية له جاهزة للاستغلال على امتداد مساحات الصراع.

ب ـ في المقابل، يبدو المشروع الإيراني – السوري جاهزا، له أسسه، وبناه التحتية والقادرة على التأثير المباشر في العراق، لبنان وفلسطين.

ج ـ على المشروع العربي الانتظار لما ستأتي به أميركا في انتخاباتها كما في الرد على روسيا. بينما يبدو المشروع الآخر، وكأنه يستفيد من هذه الفترة لتحسين وضعه بدون رقيب أو حسيب، وعلى كل مساحات الصراع.

د ـ أخيرا وليس آخرا، يملك العرب حتما القوة المالية، هذا عدا عن القدرة على التأثير في المجال الآيديولوجي السني. أما المحور الثاني، فهو قادر على التأثير العملاني الأمني مباشرة وفي كل لحظة، حتى ولو لا يملك المال الكافي.

انطلاقا من المحورين المذكورين أعلاه، تبدو خريطة المنطقة الجيوبوليتيكية قائمة حول «ركيزتين»: أولاهما شلل أميركا في العراق وعدم قدرتها على التأثير، وثانيتهما صراع اقليمي يدور بين محورين.

من خلال الصورة الكبرى للمنطقة، يجب ان نفهم زيارة وزير الخارجية المصري الأخيرة للبنان. كذلك، يجب ان توضع الزيارة من ضمن المنافسة بين المحورين. لكن المبادرة المصرية لا تقتصر على الساحة اللبنانية، بل هي تتعداها إلى غزة، خاصة بعد تعثر اتفاق مكة.

وكذلك، لا يمكن فهم المبادرة المصرية تجاه لبنان وغزة إلا من ضمن إطار التعاون السعودي ـ المصري، خاصة انه كان للسعودية الدور الأهم في تحول سنة العراق ضد القاعدة، الأمر الذي ألزم وأجبر إيران على فتح باب الحوار مع أميركا، كما اجبرها على ضبط الميليشيات الشيعية المتطرفة.

إذا الصراع في المنطقة يدور الآن ضمن مثلث من الدول، هو إيران والسعودية ومصر، وفي وسطها يربض الأميركي في العراق، خاصة بعدما أصبح مشكلة بدل أن يكون الحل في يده.

قد تعني عودة مصر إلى لبنان، ان المشروع العربي قد بدأ يُترجم على ارض الواقع بدءا من لبنان، بالإضافة إلى الاقتراح المصري لإرسال قوة حفظ امن عربية.

كذلك، اتت المبادرة المصرية بعد زيارة الملك السعودي لمصر، وزيارة رئيس الوزراء اللبناني لها.

وهنا، وفي مستوى الصورة الصغرى، وترجمة للصورة الكبرى. ماذا تعني زيارة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق عمر كرامي لمصر، ولماذا اتبعها بزيارة لإيران حيث قابل الرئيس أحمدي نجاد؟ وماذا تعني زيارة سفير المملكة في لبنان لطرابلس حيث التوتر المذهبي؟

لكن الزيارة الأبرز هي التي قام بها وزير خارجية مصر احمد أبو الغيط للبنان. والاهم، هو ما ورد في تصريحه والذي تناول أهم بُعدين على الساحة اللبنانية، وهما الطاقة والأمن. الطاقة عبر استجرارها، أما الأمن فهو عبر تقوية الجيش اللبناني، تدريبا وتسليحا. هذا عدا توجيه انذار مصري لإسرائيل بعدم إطلاق التهديدات ضد لبنان.

لكن الأكيد ان عودة المشروع العربي ليست قرارا يُتخذ، بل مسار. فالمشروع يستلزم آليات وبنى تحتية تتطلب وقتا طويلا. فهل ستقبل سورية المشاركة في لبنان؟ وهل ستقبل ايران التخلي عن لبنان، وهو الذي قدم لها اهم مكاسب استراتيجية ساعدتها في صراعها مع أميركا؟ وعلى الساحة المحلية، هل سيقبل حزب الله الدور العربي بهذا الشكل الذي يستهدفه؟

وأخيرا وليس آخرا، كيف يمكن النظر، أو بالأحرى انتظار قدوم المشروع العربي، خاصة بعد القمة التي عُقدت في دمشق وتناولت السلام، لبنان، النووي الإيراني، دارفور وحتى احتمالات عودة الحرب الباردة؟ هذا مع التذكير بأن فريقين في القمة ليسا عربيين، ساركوزي وأردوغان.

في الختام، وإذا كان المشروع العربي مصمما على العودة إلى لبنان. وإذا كان يستلزم هذا المشروع تحولا جذريا في الستاتيكو، فهل نحن أمام حرب عربية، وعربية ـ إيرانية على لبنان؟ وماذا ينتظر الساحة اللبنانية من مفاجآت بعد الحرب على جورجيا؟ لذلك، يجب فهم كل ما يجري في طرابلس وعكار من ضمن الصورة الكبرى التي تحدثنا عنها.

* عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي