هدنة الضرورة.. لا بشائر المصالحة

TT

من دون «حذلقة» أو لعب على الكلام.. يجب القول إن ما يسميه بعض الساسة والإعلاميين اللبنانيين «مصالحات» ما زال بعيداً جداً عن هذه المرحلة المتقدمة جداً من مراحل التعايش المطلوب في ما يفترض أنه وطن واحد لجميع أبنائه.

ولئن كان اللبنانيون قد عاشوا في 7 مايو (أيار) الماضي حالة «مصارعة».. بعدها قيل لنا إنها تطوّرت، بفعل نوبة التلاقيات الثنائية، إلى «مصارحة» الغاية منها أن تفضي إلى «مصالحة»، فحقيقة الأمر أن ثمة أموراً عديدة لا بدّ من تبلورها قبل الخوض حتى في موضوع التصارح المتبادل.

ما حصل، كما يدرك أطراف اللقاءات المأمول ان تفضي إلى «المصالحة» المنشودة، وكما قال رئيس الوزراء السابق عمر كرامي وأصاب هذه المرة، مجرد هدنات لم تبلغ مرحلة البحث بالعمق في أسباب ما يفرّق بين اللبنانيين ويشجّعهم على إلغاء بعضهم بعضاً بقوة السلاح.

كلام السيد حسن نصر الله أمين عام «حزب الله» وكلام حليفه النائب ميشال عون لعلهما الأغنى من حيث الدلالات المشتركة وغير المشتركة على الجو العام الذي تسوّق «المصالحة» المزعومة فيه.

السيد نصر الله، في خطبه الأخيرة تعمّد طمأنة الآخرين من دون أن يقدّم أي تنازلات حقيقية في هدفه الاستراتيجي الأساسي الذي هو فرض الحزب سيطرته على الساحة اللبنانية. وهنا كان لافتاً قوله إن ما يحصل من تلاقيات لا يعني نسج تحالفات جديدة. فالحزب لن يتخلى عن حلفائه الذين أخلصوا له والذين يصرّ على مكافأتهم بفرضهم ليس فقط على البرلمان المقبل بل على «طاولة الحوار الوطني» أيضاً.. وللطرف الآخر الإبقاء على حلفائه. ونتذكر أن «الحزب» عبر قياداته وإعلامه قال لنا في الماضي القريب إن حلفاء خصومه هم إسرائيل وأميركا ومن لف لفهما.

السيد نصر الله يقول من دون مواربة، وهذا أمرٌ يسجل له لا عليه، إن لديه مشروع هيمنة سياسية مطلقة ليس بالضرورة عن طريق احتكار «الحزب» السلطة بمفرده، بل بالهيمنة عبر «جبهة عريضة» كلها من «الكومبارس» والتوابع القرار الفصل فيها، كما السلاح والمال، لـ«الحزب».. وحده.

عون في المقابل، الممتن جداً من إخلاص رافعة «حزب الله» السياسية له في زنقته، ما زال يتصوّر أنه لاعب أساسي في معادلة الصراع السياسي في لبنان. وهو يستغل إصرار الأفرقاء غير المسيحيين في «14 آذار» على تجنّب الرد على تهجّماته.. للتصعيد أكثر، آملاً أن تؤدي الجرعات الإضافية من التهجّم إلى استدراج ردّ ما عليه.. يبادر فوراً إلى استغلاله وضمه إلى «عدة» الاستشهاد المزعوم الدائم دفاعاً عن «حقوق المسيحيين»!

السيد نصر الله يعرف ما يريد، ويعرف كيف يوجّه الرسائل. وهو يخوض الآن بعدما انكشفت الأهداف الاستراتيجية لـ«حزب الله» أمام جميع اللبنانيين معركة «علاقات عامة» ذكية «يتصدّق» فيها على باقي الوطن بالأمن.. وأيضاً بالمشاركة السياسية كـ«أقلية ذميّة» يصرّ بشهامة على تمثيلها في الحكم (على الرغم منها؟) بعدما تصير الأغلبية البرلمانية والسلطة الفعلية له. وبالتالي، إذا كانت النبرة التصالحية «التصدّقية» جديدة بعض الشيء على خطاب «حزب الله» على لسان أمينه العام فهي لا تغيّر شيئاً في التناقض الصارخ الذي يمزّق لبنان ويهدّد مصيره بين مفهومي «الدولة» و«المقاومة» الفئوية التي هي خارج الدولة.. وأكبر منها واقوى.

في ظل واقع كهذا، يجوز التساؤل «لماذا إذاً الهرولة نحو التلاقيات؟»

الإجابة المنطقية على هذا التساؤل هي أن الجميع، بما فيهم «حزب الله» الذي يتصرّف على أساس أنه المنتصر بالأمس واليوم وغداً، محشورون في مأزق خلقته أوضاع إقليمية ودولية مرتبكة.

فالولايات المتحدة في سبات انتخابي خطير، ويستبعد أن تخرج بعده بخطوات قاطعة بعد «كوارث» إدارة جورج بوش في إدارة السياسة الخارجية، وتفاقم الأزمة المالية التي ثمة مَن يتوقع أن تؤدي إلى انكفاء مؤقت إلى الداخل.

وأوروبا في «حالة عجز» نهائي أجلى مظاهره نوعيّة القيادات التي أوكلت إليها ـ أو وكّلت نفسها ـ بالتعامل مع أزمات الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. وإسرائيل تزداد خطورة وغباءً، سواء أنِست في نفسها القوة أو اكتشفت في ذاتها الضعف والعجز.

وإيران، بنظامها الحالي، تخوض «حرب بقاء» وهي تدرك أنها من دون قدرات نووية ستكون أقل قدرة على ردع مَن يريد إسقاط النظام، وآخر ما تريده الاضطرار لخوض الحرب داخل حدودها، وهو بعض ما يفسر تمدّدها العسكري في معظم محيطها.

وسورية، التي لم تعترف ولن تعترف باستقلال لبنان، أيضاً تعتبر الهجوم أفضل وسائل الدفاع.. لكن وفق الحسابات التقليدية لحكم يعوّض ضعفه العسكري بمشاغباته السياسية، مع أنها قد تفقد خلال الأشهر المقبلة عدداً من خياراتها الابتزازية إذا تفاقمت مواجهة واشنطن/ تل أبيب – طهران.

ثم هناك أزمة تعامل العالم مع نموذجين من الأصوليات الإسلامية: نموذج الشيعية «الملالية» الإيراني ونموذج السنية «الطالبانية» الباكستاني، ومع أيهما سيجد الغرب فرص التعايش أو المهادنة أقل تكلفة وأسهل مراساً.

اللبنانيون، رغم سوء قراءتهم المزمن لأحوالهم وأحوال المنطقة فهموا – لأول مرة – أن اللعبة هذه المرة أكبر من الجميع، فاختاروا الدخول في هدنة.

إنها هدنة الضرورة، لا بشائر «المصالحة».