صور .. ونيجاتيف !

TT

هناك حكمة آسيوية قديمة معروفة تقول إنه « كلما زادت وكبرت أحجام صور وتماثيل الحاكم في بلد ما كلما كانت مساحة الظلم والاستبداد أكبر فيه» تذكرت هذا القول وأنا أتابع أخبار موافقة الأطراف اللبنانية المختلفة على إزالة كافة الصور والشعارات للأحزاب والشخصيات السياسية هناك (وما أكثرها) ففي لبنان من الممكن وهذا الذي يحدث دائما، أن يسير الشخص بين شارع وآخر ويفاجئ بشعارات تهتف بحياة أحد الزعماء وتمجده وتضع أقواله وشعاراته حتى تصل «لزقاق» آخر فيتغير الحال لتنطلق شعارات وصور أخرى تماما، نعم لبنان بلد التنوع حقا، ولكن هذا التنوع سرعان ما تحول الى فوضى مسعورة غذتها الصور والشعارات التي كانت تكبر وتطول وتعرض حتى بلغت أحجاما اسطورية مدعومة بشعارات وأقوال لا يمكن إلا أن تصدر من أنبياء ليس إلا ! أذكر أنني كنت في زيارة لبلد «ثوري» عربي وكنت أرى صور «القائد» في أوضاع مختلفة مرة كمزارع يحرث ويرعى الحقول، ومرة كقائد عسكري لجيش بلاده تظهره كصلاح الدين الجديد، ومرة أخرى كرجل دين مؤمن وخاشع يؤدي الصلاة، ومرة كرياضي يمارس اللعبة مع الشباب، كلها كانت من خلال جرعات حبوب «الهلوسة السياسية» التي كانت مفروضة على الناس تعاطيها ليلا ونهارا، حتى أنني كنت على يقين أن المصور والمطبعة اللذين يقومان بتصوير «القائد» وطباعة ملصقاته هما أكثر أبناء هذا الشعب ثراء لأنهما من الواضح جدا أنهما يعملان ليلا ونهارا بدون توقف وبالأمر المباشر أيضا! لبنان بلد الثمانية عشر مذهبا وعشرات الاحزاب ومئات الزعماء سيكون «مختلفا» بلا شعارات وبلا صور ولكنها خطوة مهمة ومطلوبة لتكريس صناعة الوطن بدلا من صناعة أصنام للزعماء وعبادتهم سياسيا. فلبنان تسير فيه ولا تعلم تحديدا أين أنت إلا اذا ذكرت نفسك بأنك لا تزال فيه، فتارة تدخل في منطقة فتجزم بأنك في قلب قم أو مشهد بايران، ومناطق أخرى تعتقد إنك وصلت الى غزة أو رام الله ومناطق أخرى تبدو لك أنك في روما بالقرب من الفاتيكان. كثرت الاعلام وزادت الشعارات وانتشرت الصور كل ذلك على حساب العلم اللبناني الرمز الأهم وعلى ايقونات الاستقلال الاوائل في تاريخ لبنان الحديث، غيب كل هذا في سبيل تمجيد أوضاع وشخصيات ورموز وأحزاب ترتبط فعليا بالخارج أكثر منها بلبنان نفسه.

التحدي الأهم بالنسبة للبنان واللبنانيين أنفسهم لن يكون بازالة قطع من القماش ومسطحات ورقية اعتلت المباني وزينت بها الشوارع ولكنها الذهنية التي جعلت الانتماء والتعصب لها على حساب الانتماء الأهم وهو للبنان نفسه. رمزية هذا الاتفاق على إزالة الملصقات ( وكل الأمل أن يسمح بإزالتها كافة فلا يصنف بعضها على أنه ديني وقومي وغير ذلك). رمزية هذا الاتفاق مهمة وهي خطوة في الطريق السليم ولكن تبقى القرارات المهمة والمؤلمة والصعبة والمتعلقة بإزالة آثار التطرف والتمذهب والطائفة وهي كثيرة ويعلمها ويعيبها اللبنانيون جميعا ولكن لا يوجد فيهم من يجرؤ على القيام والاقدام بتنفيذها. اتطلع أن أرى لبنان لا علم فيه ولا صورة ولا شعار إلا العلم اللبناني... فقط.

[email protected]